الصليب: أبعاده الرأسيَّة والأفقيَّة

الصليب: أبعاده الرأسيَّة والأفقيَّة

يُقدِّم لنا الكتاب المقدَّس إعلانًا قويًّا عن كلِّ ما أتمَّه يسوع على الصليب. وبينما نسعى لتصنيف الأبعاد المختلفة للصليب، نكتشف أنَّه توجد أبعاد رأسيَّة وأفقيَّة لعمل يسوع. الأبعاد الرأسيَّة هي أبعاد أساسيَّة، أمَّا الأبعاد الأفقيَّة فهي نتيجة مترتِّبة عليها.

تشمل الأبعاد الرأسيَّة هزيمة يسوع للشيطان (تكوين ٣: ١٥؛ يوحنَّا ١٢: ٣١؛ كولوسِّي ٢: ١٥)، واسترضاءه لغضب الله (رومية ٣: ٢٥؛ عبرانيِّين ٢: ٧؛ ١يوحنَّا ٢: ٢؛ ٤: ١٠)، وكفَّارته لخطايانا (عبرانيِّين ١: ٣؛ رومية ٤: ٧، ٨)، وتحريرنا من سيادة الخطيَّة (رومية ٦: ٩- ١٤)؛ وضمانه للسماء الجديدة والأرض الجديدة (عبرانيِّين ٢: ٥- ١١)، وغلبته للعالم (يوحنَّا ١٢: ٣١؛ ١٦: ٣٣).

أمَّا الأبعاد الأفقيَّة فتشمل كونه مثالًا حيًّا للتضحية بذاته (رومية ١٥: ٢، ٣؛ ١بطرس ٢: ٢١)، ووساطته في مصالحة البشر بعضهم مع بعضٍ، صانعًا السلام لأولئك الذين كانوا يعيشون في عداءٍ سابقٍ (أفسس ٢: ١٤).

عندما يُحرِّف الناس أو ينكرون التعليم الكتابيَّ بشأن الطبيعة [الأبعاد] الرأسيَّة للصليب، فإنَّ ذلك حتمًا يقود إلى إنجيلٍ زائفٍ. وبالمثل، عندما تُقدَّم الأبعاد الأفقيَّة للصليب على أنَّها الأهمُّ، أو تُستبدَل الأبعاد الرأسيَّة بها، فإنَّ ذلك في النهاية يؤدِّي إلى إنجيلٍ زائفٍ. من الضروريِّ أن ندرس بعناية التعليم الكتابيَّ بشأن عمل يسوع، خاصَّةً في ما يتعلَّق بما هو أساسيٌّ (رأسيٌّ)، وما هو نتاج لذلك (أفقيٌّ). يجب أن نكون طلاَّبًا لتاريخ تطوُّر عقيدة الكفَّارة وأبعادها المرتبطة بها عبر التاريخ. في هذه المقالة، سننظر في تطوُّر العقيدة التاريخيِّ والتعليم الكتابيِّ بشأن الأبعاد الرأسيَّة والأفقيَّة للصليب، لكي نؤكِّدَ أنَّ الأبعاد الرأسيَّة يجب أن تتقدَّم على الأبعاد الأفقيَّة.

في العقد الأخير من القرن الحادي عشر، كتب "أنْسِلم" Anselm، رئيس أساقفة كانتربري، عمله المشهور "Cur Deus Homo لماذا صار الله إنسانًا؟". وبعد ما يقرب من ألف عام، لا يزال هذا الكتاب هو الدفاع الأساسيَّ عن عقيدة الكفَّارة البديلة. في هذا الكتاب، جادل "أنْسِلم" بأنَّ الهدف الأسمى من موت يسوع على الصليب –وهو السبب الذي من أجله تجسَّدَ الابن الأزليُّ وصُلِبَ– هو أن يقدِّم نفسه بديلاً عن شعبه ليكفِّر عن خطاياهم. يقدِّم "أنْسِلم" تفسيرًا دقيقًا وعميقًا للكفَّارة البديلة، الذي يعكس جوهر التعليم الكتابيِّ بشأن هذا الموضوع، وقد أصبح مرجعًا للاهوتيِّين منذ الإصلاح وحتَّى يومنا هذا.

لقد تمَّ انتقاد عمل "أنْسِلم" من قِبَل عديدٍ من اللاهوتيِّين الذين تحدَّوا عقيدة الكفَّارة البديلة. بعض هذه الانتقادات كانت صريحة وواضحة، وكان بعضها الآخر أكثر مكرًا. في حين ركَّز "أنْسِلم" على البُعدَ الموضوعيَّ (objective) للكفَّارة، أولى "بيتر أبيلارد" Peter Abelard، اللاهوتيُّ والفيلسوف الفرنسيُّ في العصور الوسطى، الأهمِّيَّةَ لفهمٍ ذاتيٍّ (subjective) للكفَّارة. وفقًا "لأبيلارد"، كان موت يسوع على الصليب في المقام الأوَّل بمثابة مثالٍ حيٍّ للطاعة الكاملة لإرادة الله ومحبَّته الفائقة، التي تُلهِم الإنسان للاستجابة بمحبَّته لله، ممَّا يؤدِّي إلى تحوُّله الداخليِّ الشخصيِّ. على مدار العصور الوسطى، كان هناك تنافس بين الفهم "الأنسلميِّ" الذي يركِّز على الكفَّارة البديلة، والفهم "الأبيلارديِّ" الذي يبرز البُعدَ الأخلاقيَّ والروحيَّ في موت المسيح.

في أواخر القرن التاسع عشر، تحدَّى اللاهوتيَّان الألمانيَّان "فريدريش شلايرماخر" Friedrich Schleiermacher و"ألبريخت ريتشل" Albrecht Ritschl العقيدةَ التقليديَّةَ للكفَّارة البديلة كما صاغها "أنْسِلم". بالنسبة إلى "شلايرماخر"، كان ما حقَّقه يسوع على الصليب لا يُعبِّر عنه فقط بالكفَّارة البديلة، بل كان بمثابة اتِّحادٍ صوفيٍّ بين المسيح والمؤمنين، حيث تمَّ تحقيق المُصالحة من خلال هذا الاتِّحاد الروحيِّ. ولم يكن المقصود أنَّ الابن الأزليَّ لله قد استوفى مطالب الله العادلة نيابةً عن الخطاة، بل أنَّه "تألَّم معنا في رحمةٍ كهنوتيَّة"، مشيرًا إلى التضامن الإلهيِّ الكامل مع البشريَّة في معاناتها، مع الحفاظ على قدسيَّته وبركته حتَّى في أقسى اللحظات، إلى موت الصليب.

ذهب "ريتشل" أبعد من ذلك، مُقترحًا أنَّ "ما حقَّقه يسوع من خلال طاعته الأخلاقيَّة لم يكن تأثيرًا في شخص الله -أي أنه لا تغيير في الله من حالة الغضب إلى الرحمة- كما أنَّه لم يحقِّق الفداء للمؤمنين من قوَّة الشيطان أو من الموت. بل، ما أنجزه هو أنَّ جميع الذين يجعلون إرادة الله إرادتهم الخاصَّة، مثل المسيح، يمكنهم، في شركةٍ معه، أن يتخلَّصوا من شعور الذنب وعدم الإيمان وفقدان الثقة". وقد تبنَّى اللاهوتيُّون والرعاة الليبراليُّون نهج "شلايرماخر" و"ريتشل" في رفضهم لفكرة إرضاء المتطلبات الإلهية بشأن الخطايا والخطأة من خلال الكفَّارة البديلة، وتبنَّوا مجموعة من "النظريَّات" التي قد تحلُّ محلَّ الفهم "الأنسلميِّ".

في عام ١٩٣٠، ألقى "غوستاف أولين" Gustaf Aulén، أستاذ اللاهوت في جامعة لوند في السويد، سلسلةً من المحاضرات التي نُشرِت لاحقًا تحت عنوان Christus Victor (المسيح المنتصر). اعترض "أولين" على استنتاجات "أنْسِلم"، ولا سيَّما رفضه لفكرة "المسيح المنتصر" التي تنصُّ على أنَّ يسوع دفع فديةً للشيطان عندما صُلِب على الصليب. كما سعى "أولين" بحماسةٍ لتقويض اللاهوت البروتستانتيِّ التقليديِّ، حتَّى أنَّه ذهب إلى حدِّ الإيحاء بأنَّ "مارتن لوثر" Martin Luther كان يعتنق هذه النظرة الخاصَّة بالكفَّارة. في نهاية المطاف، استند "أولين" إلى تعاليم بعض اللاهوتيين الأوائل مثل "أوريجانوس" و"غريغوريوس النيصي" لدعم قناعته بأنَّ المسيح دفع فديةً للشيطان على الصليب، معتبرًا ذلك محورًا رئيسًا لفهم عمل المسيح الخلاصيِّ.

من الجدير بالذكر أنَّ "أنْسِلم" قد عالج بشكلٍ مُفصَّل الادِّعاء القائل بأنَّ يسوع كان يجب أن يدفع فدية للشيطان من أجل تحرير البشر من سلطته. وقبل نهاية كتابه "لماذا صار الله إنسانًا؟ Cur Deus Homo"، أوضح قائلاً: "لم يكن الله مدينًا للشيطان بشيءٍ سوى العقاب، والإنسان لا يمكنه أن يُصلح العلاقة مع الله إلاَّ من خلال غلبته للشيطان، كما غُلِب هو منه أيضًا في البداية. وهكذا، فإنَّ كلَّ ما يُطلب من الإنسان هو ديْنٌ مُستحَق لله، وليس للشيطان".

كان "أنْسِلم" يشير إلى الانتصار الذي حقَّقه المسيح على الشيطان كممثِّل لشعبه. ومن خلال هذا الفهم، يتَّضح أنَّ "أنْسِلم" كان يرى أنَّ ما أنجزه يسوع على الصليب يتجاوز مجرَّد الكفَّارة البديلة. وهذا يُعَدُّ أمرًا بالغ الأهمِّيَّة، إذ إنَّ بعض اللاهوتيِّين البروتستانت قد اختزلوا أحيانًا ما تحقَّق من خلال موت يسوع على الصليب إلى مجرَّد عمل الكفَّارة البديلة، متجاهلين الأبعاد الأخرى لهذا العمل الفدائيِّ.

مع ذلك، كان "أنْسِلم" يولي اهتمامًا خاصًّا بالحفاظ على الطابع البَدَليّ لموت يسوع كعنصرٍ أساسيٍّ في فهمه للكفَّارة. فقد كتب قائلاً: "دون إتمام الإرضاء، أي دون دفع الديْن طوعًا، لا يستطيع الله أن يعفو عن الخطيَّة دون عقاب، ولا يمكن للخاطئ أن يستعيد السعادة، أو السعادة المماثلة التي كانت له قبل السقوط؛ لأنَّه لا يمكن للإنسان أن يُستعاد إلى حالته السابقة أو يصبح كما كان قبل أن يخطئ."

بغضِّ النظر عن عدد الأصوات التي قد تحاول أن تَصرفنا عن الحقِّ الثابت في الكفَّارة البديلة للمسيح، سواء من خلال تعليمٍ صريحٍ أو ضمنيٍّ، فإنَّه يتعيَّن علينا أن نتمسَّك بها بثباتٍ باعتبارها البُعد المحوريَّ للصليب.


1- ستيفن ر. كارترايت Steven R. Cartwright، تعليق أبيلارد على رسالة بولس إلى أهل رومية (واشنطن العاصمة: جامعة الكاثوليك في أمريكا، 2011)، 44n175.

2- هيرمان بافينك Herman Bavinck، اللاهوت الإصلاحيُّ، المجلَّد 3، الخطيئة والخلاص في المسيح، تحرير جون بولت، ترجمة جون فيريند (غراند رابيدز، ميشيغان: بايكر أكاديمي، 2006)، 353.

3- بافينك Bavinck، اللاهوت الإصلاحيُّ، 3: 354-355.

4- أنسلم Anselm، لماذا صار الله إنسانًا (أوكسفورد، إنجلترا: جون هنري وجيمس باركر، 1865)، 112.

5- أنسلم Anselm، لماذا صار الله إنسانًا، 42.


تمَّ نشر هذه المقالة لأوَّل مرَّة في مجلَّة Tabletalk في يونيو 2018. وهي الجزء الثاني في سلسلة عن الصليب.

يمكنكم قراءة النسخة الإنجليزية من الرابط التالي The Vertical and Horizontal Cross