
نحتفل هذه الأيام بذكرى صلب وقيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات، الأمر الذي يتضمن في معانيه الغالية والمتعددة مفهوم الكفارة. يأتي عنوان هذا المقال من إحدى النقاط التي تتردّد في أروقة اللاهوت المُصلَح تحت موضوع "الفداء". فماذا نقصد بـ "نطاق الكفارة"؟
المقصود هنا هو: لمَن كانت كفَّارة المسيح؟ هل دفع المسيح بموته على الصليب ثمن خطايا الجنس البشريِّ بأسره، أم أنَّه دفع فقط عن خطايا أولئك الذين عرف أنَّهم سيخلصون؟
وللإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نعرف أوَّلًا ماذا نقصد بكفَّارة المسيح. يمكن القول إنَّ المقصود هو عمل الله في المسيح من خلال طاعته وموته، اللذين بهما قد أزال دين خطايانا ورفع غضبه عنَّا، رابحًا كلَّ فوائد الخلاص؛ التحرير، والتقديس، والتبنِّي، والتمجيد.
يتَّضح من الكتاب المقدَّس أنَّ رسالة الإنجيل مُقدَّمة لكلِّ الناس بلا استثناء، فكيف يمكن القول إنَّ عمل المسيح كان لأناسٍ مُحدَّدة، في حين أنَّ العمل مُقدَّم للجميع؟ من ناحيةٍ أخرى، إذا نظرنا إلى الكفَّارة على أنَّ المسيح فيها قد دفع ثمن خطايا كلِّ الناس، فلماذا سيعاقب الناس في النهاية؟ وإن كانت الإجابة هي أنَّهم سيُعاقَبون على رفضهم لعمل المسيح، ألم يكن الرفض نفسه خطيَّة من الخطايا التي مات المسيح من أجلها؟ فإن استثنيناها، فنحن نعترف ضمنًا أنَّ المسيح لم يمت من أجل خطايا مُحدَّدة.
تباينت الآراء في هذه القضيَّة، ولكن يمكن تلخيص الآراء في رأيين: هناك من يحدُّ الكفَّارة في تأثيرها ولكنَّه لا يحدُّها في نطاقها، وهناك من يحدُّ الكفَّارة في نطاقها ولكنَّه لا يحدُّها في تأثيرها. ولكنَّ الجميع يحدُّون الكفَّارة.
أوَّلاً: الكفَّارة المحدودة في تأثيرها
يرى هذا الرأي أنَّ موت المسيح كان للجميع بالمقدار نفسه، بمعنى أنَّه شملَ تقديم عرضٍ للجميع، وأنَّ المسيح قد تحمَّل العقاب عوضًا عن الجميع بالمقدار نفسه، وأصبح الأمر متوقِّفًا على إيمان الشخص. فمَن يؤمن سيستفيد ممَّا فعله المسيح.
ثانيًا: الكفَّارة محدودة في نطاقها
يرى هذا الرأي أنَّ موت المسيح لم يكن للجميع بالمقدار نفسه، وخاصَّةً إذا وُضِع في الحسبان أنَّ الطبيعة الجديدة أو القلب الجديد قد أنجزه المسيح في الكفَّارة. فكيف يكون المسيح قد ضمن القلب الجديد للجميع، في حين أنَّ الجميع لن يكون لهم هذا القلب الجديد؟ (راجع مفهوم "العهد الجديد" من متَّى ٢٦: ٢٨، مع إرميا ٣١: ٣١- ٣٣).
الجدير بالذكر إنَّ هذا الرأي لا يقلِّل من عموميَّة عمل المسيح، بمعنى أنَّ كفَّارة المسيح تكفي الجميع، إلاَّ أنَّها ليست فعَّالة في الجميع. فالمسيح "مات لأجل الجميع" بمعنى أنَّ عمله يكفي الجميع، ولكنَّه مات لأجل المؤمنين (الكنيسة أو شعبه) بشكلٍ فعَّال. وإن وضعنا في الحسبان أنَّ كفَّارة المسيح قد ضمنت التحرير والمصالحة والتطهير والقلب الجديد، فكيف يمكن أن يقال هذا عن كلِّ العالم؟ فمن طبيعة الكفَّارة كمالها وضمان تأثيرها، اللذان لا يتمتَّع بهما الجميع.
يرى هذا الرأي أنَّ عمل المسيح الكفَّاريَّ له فوائد لغير المؤمنين. فعمل المسيح كان كافيًا لكي يعرض على الجميع التوبة والإيمان به، وبهذا يمكننا الكرازة للجميع بلا استثناء. فهناك اختلاف بين أن نقول إنَّ هناك فوائد لكفَّارة المسيح لكلِّ العالم، وأن نقول إنَّ كفَّارة المسيح كانت مُصمَّمَة بالأساس بما اكتسبته لكلِّ العالم.
فالمسيح جاء ليخلِّص شعبه من خطاياهم (يوحنَّا ٦: ٣٩؛ متَّى ١: ٢١) لا ليجعل الخلاص ممكنًا أو لجعل الإنسان قابلاً للخلاص. فالمسيح جاء لمهمَّة واضحة وقد أتمَّها، فالمسيح لم يأتِ فقط ليقوم بأمرٍ يجعل عرض الخلاص ممكنًا، وإنَّما أكثر من ذلك (يوحنَّا ١٠: ١١؛ رومية ٨: ٣٠؛ أعمال الرسل ٢٠: ٢٨؛ أفسس ٥: ٢٥؛ يوحنَّا ١٧: ٩).
وهنا يجب الإشارة إلى أنَّ الخلاص عمليَّة ثالوثيَّة. فهؤلاء الذين أراد الآب أن يخلِّصهم، وقد اختارهم من قبل تأسيس العالم، قد أرسل الابن لكي يموت من أجلهم، وهم أنفسهم الذين سيهبهم الرُّوح القُدس بركات عمل المسيح الخلاصيِّ لأجلهم، بما في ذلك إيمانهم (يوحنَّا ١: ١٢؛ فيلبِّي ١: ٢٩؛ أفسس ٢: ٨، ٩).
ولكن ماذا عن الآيات التي تتحدَّث عن عمل المسيح من أجل كلِّ العالم (يوحنَّا ١: ١٩، و٢كورنثوس ٥: ١٩ على سبيل المثال)؟ يجب الإشارة هنا إلى أنَّ المقصود هو أنَّ المسيح قد تحمَّل خطايا الفجَّار بشكلٍ عامٍّ، أي أنَّ هناك بُعدًا عالميًّا في موت المسيح لأجل الجميع.
فعندما يقول الكتاب المقدَّس إنَّ الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، لا يعني أنَّ العالم كلَّه، فردًا فردًا، قد تصالح مع الله، ولكنَّ الخطاة بشكلٍ عامٍّ قد تصالحوا مع الله.
فالله قد أحبَّ العالم كلَّه حتَّى بذل ابنه. فمجيء المسيح ليموت ويهب فرصةً لكلِّ العالم للمصالحة مع الله هو منتهى الحبِّ، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ كلَّ فردٍ سينال الحياة وفوائد عمل المسيح التي أتمَّها على الصليب.
فذبيحة المسيح كافية لتدفع عن خطايا أيِّ شخصٍ في العالم، ولكنَّها ليست بالضرورة فعَّالة لكلِّ شخصٍ في العالم. لذلك يمكن القول إنَّ "المسيح مات من أجل شعبه"، و"من أجل كلِّ الناس"، ولكنَّ معنى "من أجل" في العبارتين مختلف.