آدم والمسيح

آدم الأول وآدم الأخير

في تدوين البشائر الأربعة لحياة المسيح لم تُكتب كل تفاصيل حياته.  فالبشيرون الأربعة قد ركزوا على أمور محددة من حياة المسيح قصد الوحي أن يسلط عليها الضوء لبناء الكنيسة عبر الزمن. ومن أهم ما كتب في البشائر هو تجربة المسيح من إبليس في البرية. وقد ذُكِرت تجربة المسيح في ثلاثة أناجيل وتفصيلاً في اثنين منهم، متى ولوقا.

وبالنظر لتجربة المسيح في إنجيلي (متى ٤:‏١‑ ١١) و (لوقا ٣:‏٢١، ٢٢) نجد أن في كليهما تأتي التجربة بعد معمودية المسيح. ففي إنجيل متى تأتي التجربة بعد معمودية المسيح مباشرة ولكن في إنجيل لوقا نرى الكاتب يضع نسب المسيح الذي يصل به إلى آدم بين معمودية المسيح وتجربة المسيح. فلماذا قام لوقا بهذا؟ ما هو الداعي الذي جعله يذكر نسب المسيح هنا وليس في بداية الإنجيل كما فعل متى؟ ولماذا ربط المسيح بآدم وليس بداود أو إبراهيم مثل متى؟

بالرجوع لقصة معمودية المسيح، نراها انتهت بشهادة من الله أن المسيح هو ابنه الذي سُر به. وبالنظر لسلسلة نسب المسيح بعدها مباشرة نرى أن آدم يدعى ابن الله. فها نحن أمام شخصين وكلاهما يدعى ابن الله. وكأن لوقا يضع أمامنا مقارنة بين ابنين لله، آدم والمسيح أو آدم الأول وآدم الأخير. فآدم كان في علاقة بنوة خاصة لله حينما خلق، والمسيح علاقته البنوية بالله خاصة جداً فهو "ابْنَ الله" المتأنس الذي ولد من مريم العذراء بحلول الروح القدس عليها.

الثلاث تجارب

وكأن لوقا يعد المشهد للتجربة التي سيتعرض لها المسيح. فهو يريدنا أن نتذكر تجربة آدم ونحن نقرأ تجربة المسيح. كانت التجارب التي تعرّض لها المسيح مشابهة لما واجهه آدم وحواء في جنة عدن، فما رأته حواء في الشجرة (جيدة للأكل، بهجة للعيون، شهية للنظر) هو بمثابة تجسيد للثلاث تجارب التي واجهها المسيح.

التجربة الأولى: إن كنت "ابْنَ الله" حول الحجارة إلى خبز. في إنجيل لوقا يقول أن المسيح كان يُجرّب طوال الـ٤٠ يوم في البرية. وكان المسيح صائمًا في هذه الأيام ليعلن أن شبعه الحقيقي هو الله، حتى في أشد أوقات تعب وضعف الجسد كانت الكلمة الأخيرة لله في حياة المسيح وليست لاحتياجاته الجسدية.

فالمسيح بالفعل هو "ابْنَ الله" ويستطيع أن يُحوِّل الحجارة إلى خبز ولكن التجربة كانت وكأنها تقول له اجعل معاناتك أسهل بوصفك الله. واضح أن الروح قاد المسيح في البرية هو من دعاه للصوم فكانت طاعة الله أهم من راحته الجسدية.

هذه التجربة تشبه ما رأته حواء أن الشجرة (جيدة للأكل)، فكان رد المسيح «... أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ». فالمسيح حقًا جوعان ويستطيع أن يُحوِّل الحجارة إلى خبز. لكن الخبز لن يكون هو ما يُحرِكني. فالإنسان كثيرًا ما يقرر تأمين نفسه بدلاً من الاعتماد على الله واستخدام كل ما أوتي من قوة لنوال ما يريده. وهنا التجربة مرتبطة بسد احتياج جسدي وأجعله مركز اهتمامي (أكل – راحة – متعة) فهذا شعار شخص يحيا لنفسه. قد يكون الأمر غير معني بعلاقة مع الآخرين ولكن ما يحرك الشخص هنا هو أنه يريد أن يمتع نفسه بالأشياء حتى لو كان الثمن عصيان الله أو ألا يكون هو الأول.

وفي وقت احتياجنا (جوعنا) تكون التجربة أعنف، وهنا المحك الحقيقي، فالمسيح وثق في الله وفي تسديده لاحتياجه في أحلك المواقف. فماذا يمكن أن يفعل الشخص المحتاج في موقف يعرض عليه المال أو المتعة ولكن بكسر وصايا الله. قد نلجأ في وقت احتياجنا للثقة في الأشياء التي يهبها العالم بدلاً من أن نطرح ثقتنا على الله. فبعد صيام ٤٠ يوم لن يكون للطعام الكلمة الأولى في حياة المسيح.  وفي النهاية نرى أن الملائكة كانت تخدمه. 

التجربة الثانية: أخذه إلى سور عالي في الهيكل وطلب منه أن يلقي بنفسه ”لأنه يوصي ملائكته أن يحملوك". والقصد هنا هو إبهار الناس لكي يتبعوه. فما سيكون رد فعل من في الهيكل عندما يرون المسيح نازلاً من السماء محمولاً من الملائكة؟ مرة أخرى يريد إبليس الطريق السهل للمسيح لكي يكون له أتباع.

هذه التجربة تشبه ما رأته حواء أن الشجرة (بهجة للعيون)، وكان رد فعل المسيح مقاوماً لحب الشهرة والإبهار. (تذكر انبهارنا بالملابس والمقتنيات وكيف نفكر في نظرات الناس لنا في حال امتلاكنا لهذه الأمور). وإن كانت التجربة الأولى تأتي وقت الاحتياج (وقت الجوع) فالتجربة الثانية تأتي وقت فيض نعم الله (إن كنت ابن الله فارم نفسك). وهذه التجربة تأتي ليس في وقت أعوازنا فقط ولكنها تأتي أيضاً وقت فيض نعم الله علينا.  فليس هناك ما يمنعني أن أشتري ما يحقق بهجة العيون.

 من ناحية أخرى كانت هذه التجربة بمثابة تجربة لله. فالمسيح يثق أن الله يحميه ولكن هذا لا يعني أنه يجرب الله. فلا يجب أن يلقي بنفسه من على الهيكل ليختبر إن كان الله صادقاً. المسيح هو من يجرب هنا وليس الله. فالشعب في البرية عندما عطش لم يثق في الله بل كان إن كنت أنت الله فأعطنا ماء لنشرب. فإن فعل هذا فهو يشكك في صدق الله أو يريد أن يبهر الآخرين أو كليهما. هل نُجرِّب الله اليوم؟ هل نقول له ”لو كنت أنت الله فاشفيني أو سدد احتياجي"، هذا بمثابة امتحان لله.

التجربة الثالثة: وفي التجربة الثالثة أراه ممالك العالم ووعده بأن يعطيها للمسيح لو سجد له.  فبدلاً من أن تنتظر لما بعد الألم والصليب لتنال المُلك، ها هو طريق سهل للوصول إلى ما تريد.  هذا مقابل خضوع وولاء للشيطان. (وهنا نرى تجسيدًا لحب  السلطة  والاستقلال عن الله.  وكان رد المسيح هو أن الله وحده من يستحق العبادة، ولا يوجد إله آخر سواه.

هذه التجربة تشبه ما رأته حواء في الشجرة أنها شهية للنظر، علماً بأن الأصل العبري يعني أن حواء رأت أن الشجرة يمكن أن تجعلها أكثر حكمة، وهذا بمثابة شهوة في التسلط. ونحن اليوم هل نريد التسلط؟ ولماذا نريد التسلط؟  آدم وحواء لم يريدا أن يكون الله هو من يحدد ما يفعلاه. لقد رفضا ربوبية الله عليهم واضعين أنفسهم مكان الله.

مُلخَّص التجارب هو لماذا طريق الألم، لماذا الطريق الصعب، لماذا لا تستغل قدراتك لتصل لما تريده بشكل أسرع. لا داعي للألم ولا لطاعة الله والصليب. وبالنظر للثلاث تجارب نجد أن الهدف منها هو اختبار محبتنا لله. فآدم أحب نفسه أكثر من الله ولكن المسيح أحب الله أكثر من نفسه واحتياجاته. كل التجارب كان مركزها الأنا.

طاعة المسيح

ولكن السؤال الآن هو ما علاقة طاعة المسيح ونجاحه في التجربة بنا اليوم؟ هل كان المسيح يقدم لنا نموذجا لمقاومة التجربة؟ بالطبع الإجابة على هذا السؤال هي نعم ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالمسيح كان يُطيع الطاعة التي لم ولن نتمكن نحن من إتمامها.

يجب أن نفهم أن الخلاص لم يكن فقط على الصليب وإنما طاعة المسيح كانت جزء أصيل من خلاصنا. فكما عصى آدم الأول جاء آدم الثاني وأطاع بالنيابة عنا (رومية ٥:‏١٩). فالله لا يرضيه أناس فقط لا تعصيه وإنما الله يريد شعب مطيع بسبب محبته لله والمسيح هو من قام بذلك عنا.

مشكلة الإنسان ليست فقط فيما يفعله ولكن بالأولى فيما لا يفعله… فالخطية في جوهرها هو عدم محبتنا لله من كل القلب والفكر والقول والفعل… لذا ما نحتاجه ليس فقط من يسدد ديننا ولكن من يطيع طاعتنا ومن يحب الله المحبة التي لم نحبه إياها… هذا هو المخلص الذي نحتاجه… يسوع المسيح.

آدم كان رأس البشرية ونائبًا عنها، والمسيح هو رأس البشرية الجديدة ونائباً عنها أيضاً. فآدم ممثل جميع البشر وما فعله أثر في جميع البشر. وكذلك فالمسيح هو ممثل البشرية الجديدة المُتحِدة به. فهل أنت متحد بالمسيح الذي وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب؟ لذلك يقول الكتاب «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ...» لأن المسيح هو الوحيد الذي أطاع الله والإيمان به أي الاتحاد به يعني أن طاعته قد حسبت لك. إن كنت حقاً تؤمن بالرب يسوع الذي أطاع الله طاعة كاملة، فأنت متحد به، كما يقول الكتاب «لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أفسس ٥:‏٢٠) وبالتالي فإن طاعته لله قد حسبت لنا، « فقد صار حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس ١:‏٣٠).