المؤمن والقضايا المجتمعية المعاصرة

عالَم جائع

كان للإنجيليين في القرن التاسع عشر تاريخ مشرِّف من الانخراط المجتمعي. ناهض "ويليام ويلبرفورس" William Wilberforce و"جون نيوتن" John Newton العبودية، فيما أسس "جورج موللر" George Muller و"تشارلز سبرجن" Charles Spurgeon ملاجئ في بريستول ولندن على الترتيب. أما "ويليام كاري" William Carey، المُرسَل الرائد للهند فقد مزج الكثير من الخطوات معًا إذ ناصر من أجل حقوق النساء والمعاملة الإنسانية لمرضى الجذام، وأسس بنوك ادخار لمكافحة مقرضي الرِبا، وبنى مدارس للأولاد والبنات من جميع الطبقات الاجتماعية، وابتكر مكتبات الاستعارة، وأدخل ممارسات مبتكرة في البستنة والزراعة، ونشر كلاسيكيات من الأدب الهندي.1

لكن لأسباب كثيرة فقد الإنجيليون ضميرهم المجتمعي عبر الثُلثَين الأخيرَين من القرن العشرين. خلق نظام الرفاهة المتنامي انطباعًا بأن رعاية المحتاجين يمكن إلقاء عبئها على الدولة. وأيضًا "الإنجيل الاجتماعي" (Social Gospel) – الحركة التي ظهرت في مطلع القرن العشرين وأعادت تعريف مهمة الكنيسة الأساسية متمثلَّة في بناء ملكوت الله [بشكلٍ عمليٍّ] عبر التاريخ- جعلت العمل الاجتماعي عمومًا ملوَّثًا بفعل الارتباط بها. لكن ما كان له تأثير أكبر هو اللاهوت الليبرالي الذي قلَّص دور الإنجيليين محوِّلًا إياهم إلى أقلية محاصرة داخل الكنيسة الأوسع. وهكذا كنتيجةٍ لذلك، أضحى الاستسلام لعقلية "الغيتو" (Ghetto)* والاختباء أسهل من الخروج لمواجهة العالَم الكبير الشرير متسلحين ببرنامج عملي لإصلاحه. دعا المؤرخ "تيموثي سميث" Timothy Smith هذا التقهقر "التراجع العظيم" (the great reversal).2 المسيحيون الإنجيليون، مَن كانوا في طليعة الإصلاح الاقتصادي، أداروا ظهورهم وانسحبوا من العالَم.

ثلاثة دفوع أساسية

تناول "جون ستوت" John Stott انخراط المؤمنين في المجتمع مرةً ومرات عبر خدمته. في كتابه "المؤمن المعاصر" (The Contemporary Christian) يحدد ثلاث دفوع أساسية. الأولى هي شخصية الله.

إن إله الإعلان الكتابي، وهو في كينونته الخالق والفادي، هو إله يهتم بالرفاه العام (روحيًا وماديًا) لكل البشر الذين خلقهم... يهتم الله بالفقير والجائع والغريب والأرملة واليتيم. فهو يستنكر القهر والاستبداد ويدعو للعدل. الله يوصي شعبه بأن يرفعوا صوتهم من أجل مَن لا صوت لهم ويكونوا المدافعين عن الضعفاء، وهكذا يُجسِّدون محبتهم أمامهم.3

ثم يسرد "ستوت" تجلِّي هذه الصفات في أسفار موسى والأنبياء كلها. شعب الرب مأمور برعاية الفقير والأنبياء يُحمِّلونهم مسؤولية هذا الالتزام. وصايا الناموس الموسوي لا تُركِّز على العدالة والرعاية فحسب، بل تُقدَّم بوضوح بكونها السبيل التي فيها شعب الرب "يسلك في كل طُرُقه". يتعيَّن على الشعب إقامة العدل لأن الرب نفسه هو "الصَّانِعُ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ، وَالْمُحِبُّ الْغَرِيبَ لِيُعْطِيَهُ طَعَامًا وَلِبَاسًا" (تثنية ٢٠: ١٢- ٢٠)

الدفاع الثاني الذي يسوقه "ستوت" دعمًا للمشاركة المجتمعية هو خدمة يسوع وتعاليمه. "لا شك أن الكلمات والأعمال سارت جنبًا إلى جنب في خدمته العلنية... كلماته فسَّرت أعماله وأعماله جسَّدت كلماته."2 يسلط "ستوت" الضوء بشكل مكثَّف على عواطف يسوع.

إذا أردنا مشابهة المسيح، يتعيَّن علينا نحن أيضًا الشعور بالغضب في مواجهة الظلم، وأن نتعاطف مع ضحايا القهر.4

يقارن "ستوت" بين مثلَي الابن الضال والسامريّ الصالح. وعلى الرغم من وجود ضحايا في كلا المثَلَين، فإن الابن الضال هو ضحية نفسه، بينما الرجل الذي التقاه السامريّ هو ضحية إثم الناس. المثَلَان ينطويان على فِعل إنقاذ تجسيدًا للمحبة، وكلا المثَلَين يشمل حبكة فرعية تتمثل فيها مترادفات الطاعة. يُلخص "ستوت" فكرته كما يلي:

"وهكذا يؤكد كل مَثَل على جانب جوهري من التلمذة المسيحية، في بداية تلمذتنا نعود مِثْل الابن الضال إلى المنزل للتمتُّع بالخلاص ونستمر في رحلة تلمذتنا مِثْل السامريّ الصالح حين نخرج للإرسالية. كلٌ منَّا يشبه الضال، وكلٌ منَّا ينبغي أن يشبه السامريّ. في البداية نواجه خطايانا، ومن ثمَّ نواجه معاناة العالَم. أولَا نرجع للمنزل ونتلقَّى الرحمة، ثُمَّ نخرج ونظهر الرحمة. الرحمة لا يعبَّر عنها للآخرين حتى تُذاق، ولكن عندما نتلَّقاها علينا أن نُظهرها للآخرين. دعونا إذًا ألا نفصل بين ما جمعه المسيح. كنَّا كلنا ضالين، ولكن الله يريدنا أن نكون سامريين أيضًا."5

ثالثًا يدافع "ستوت" على التحرك المجتمعي المسيحي لأنه يساعد في "توصيل الإنجيل."6 ولكن "الإنجيل يُعبَّر عنه لفظيًا بالأساس." ولذلك لا يسع المؤمنون التخلِّي عن الكلمات في الكرازة بالإنجيل، "هناك دقة في التواصل اللفظي، سواء كُتِبَت الكلمات أو نُطِقَت، وهو ما يغيب عن كل الوسائط الأخرى."7 ولكننا أيضًا "لا نستطيع إعلان محبة الله إعلانًا صادقًا ما لم نعكسها عمليًا. وهكذا لا يمكننا الوقوف لا مبالين بأولئك الذين نُحدِّثهم عن الإنجيل، ولا يمكننا تجاهل حالاتهم وظروف حياتهم."8

في كتابه "القضايا التي تواجه المؤمنين اليوم" (Issues Facing Christians Today) يُرسِي "ستوت" هياكل دفاعه بطريقة مخالفة قليلًا. يتحدث أولًا عن "عقيدة أوسع عن الله" فيها نتعرَّف أنه ليس محدودًا بالأبعاد الدينية للحياة وليس مهتمًا فقط بشعب عهده. استشهادًا بالوحي النبوي المنطوق ضد بعض الأمم يُعلِّق "ستوت" قائلًا: "يتضح من مقاطع العهد القديم هذه أن الرب يحتقر الظلم والقهر أينما وُجدوا، وأنه يُحِّب العدل ويؤسس له أينما وُجد."9      

ثانيًا يذكر "ستوت" "عقيدة أوسع عن البشر". إنها صورة الله، مُشوَّهَة لكن باقية في كل البشر، وهي صورة "تفسِّر قيمتهم الفريدة والتي طالما ألهمت التوجُّه الخيري المسيحي."10

ثالثًا يدعو "ستوت" إلى "عقيدة أوسع عن المسيح". هنا، كما في كتابه "المسيحي المعاصر"، يشير إلى المثال المُعطى لنا في تجسٍّد المسيح وخدمته. "تحنُّن يسوع الناصري بسبب رؤيته البشر المنطرحين البائسين هو ما دفعه وحرَّكه، سواءً كانوا ثكالى، جوعى، مقهورين، أو عاجزين. ألا ينبغي أن نفس هذه المشاهد تثير وتُحرِّك تحنُّن شعبه؟"11

رابعًا يسوق "ستوت" "عقيدة أوسع عن الخلاص" إذ يقول: "لا يسعنا فصل يسوع المُخلِّص عن يسوع الرب." هنا هو يستقي حُجَّته من تأكيد الإصلاح على ربط المحبة بالإيمان. "على الرغم من أن التبرير بالإيمان وحده، إلا أن هذا الإيمان لا يمكنه البقاء وحده. حتى يكون حقيقيًا وأصيلًا حتمًا سيثمر أعمالًا صالحة."12

أخيرًا يتحدث "ستوت" عن "عقيدة أوسع عن الكنيسة." هنا هو يشير إلى موضوع مشترك في تعاليمه عن الكنيسة: الاحتياج إلى منظور مقدَّس للعالَم، أي انخراط مدفوع بالتقوى في العالَم لأجل صالحه.


الملاحظات:

*المَعزِل أو الغَيْت يشير إلى منطقة يعيش فيها، طوعاً أو كرهاً، مجموعة من السكان يعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية معينة أو لثقافة معينة أو لدين


  1. Ruth and Vishal Mangalwadi, Carey, Christ and Cultural Transformation: The Life and Influence of William Carey (Carlisle: OM, 1993), 1–8.
  2. David O. Moberg, The Great Reversal: Reconciling Evangelism and Social Concern, 2nd ed. (Eugene, OR: Wipf & Stock, 2006), 11.
  3. John Stott, The Contemporary Christian: An Urgent Plea for Double Listening (Leicester: Inter-Varsity Press, 1992), 343.
  4. Stott, The Contemporary Christian, 345.
  5. Stott, The Contemporary Christian, 347.
  6. Stott, The Contemporary Christian, 347.
  7. Stott, The Contemporary Christian, 348.
  8. Stott, The Contemporary Christian, 348–49.
  9. Stott, The Contemporary Christian, 349.
  10. John Stott, Issues Facing Christians Today, 2nd ed. (London: Marshall Pickering, 1990), 17.
  11. Stott, Issues Facing Christians Today, 22.
  12. Stott, Issues Facing Christians Today, 23.

المقال مأخوذ بتصرف عن كتاب "رأي "ستوت" حول الحياة المسيحية: بين عالَمَين Stott on the Christian Life: Between Two Worlds " لكاتبه (تيم تشيستر).


المؤلف (تيم تشيستر Tim Chester)، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة ويلز University of Wales، هو مدير الدراسات اللاهوتية ومحاضر في مادة التشكيل الروحي في كروسلاندز Crosslands. يتمتع (تيم) بخيرة تزيد عن ٢٥ عامًا في الخدمة الرعوية، كما ألَّف وشارك في تأليف أكثر من أربعين كتابًا، ومنهم "وجبة مع المسيح: إصلاح الفرح A Meal with Jesus; Reforming Joy"، ومع (مايكل ريڤز Michael Reeves) كتب "لماذا يظل الإصلاح مهمًا Why the Reformation Still Matters".


تُرجِم هذا المقال عن الأصل الإنجليزي The Case Stott Made for Christian Social Involvement بعد الحصول على إذن من Crossway