
في القرن السادس عشر حوَّل الإصلاح البروتستانتي في إنجلترا المشهد اللاهوتي للمسيحية في دول "الكومنولث" [الدول التابعة للتاج البريطاني]، لكن لم يقتصر التحوُّل على اللاهوت والعقيدة فحسب، إذ تخلل الإصلاح الإنجليزي كل أركان المجتمع، بما في ذلك لاهوت العمل ومنظور الفرد نحو الوظيفة. أكَّد رجال الدين الإنجيلي الإنجليز على مبدأين أساسيين متعلقَين بالعمل والوظيفة. بعدها انتقل هذان المبدآن إلى أخلاقيات العمل البيوريتاني في القرن السابع عشر في كل من إنجلترا ومستعمراتها الأمريكية، والمبدآن هما: (١) كل المساحات مُقدَّسة، و(٢) الاجتهاد فضيلة مسيحية جوهرية.
كل المساحات هي مساحات مُقدَّسة
مبدأ الإصلاح القائل بأن كل المساحات هي مساحات مُقدَّسة ظهر كأحد تطبيقات عقيدة كهنوت جميع المؤمنين، وهي عقيدة أقرت أن كل مؤمن مسؤول أمام الرَّب ويتمتع بإمكانية وصول متساوية إليه وإلى كل الكتب المُقدَّسة. أكدت هذه العقيدة أن لكل المؤمنين قيمة وكرامة متساوية في عينيَّ الرَّب. نتيجة لذلك، وعظ رجال الدين الإنجيليون مرةً بعد مرة أن كل المساحات الجغرافية والمادية، وكل الوظائف، وكل الأدوار، وكل الدوائر التي يعمل فيها المؤمنون مُقدَّسة وتُهِّم الرَّب.
جوهريًا، لا يوجد عمل ولا وظيفة تافهة أو غير ذات معنى.
حتى المهام التي تبدو وضيعة للغاية يمكن أن تكون مُقدَّسة أمام الرَّب ويجب أداؤها بتوجُّه مُقدَّس.
كل الوظائف طالما اتصلت بمبدأ كتابي وتمتعت بقيمة أخلاقية، لها كرامة وقيمة متساوية في عينيَّ الرَّب.
مثَّل هذا التعليم تحوُّلًا مزلزلًا بعيدًا عن التعليم الكاثوليكي الذي انتشر في أواخر العصور الوسطى، والذي أصر على التفريق بين رجال اللاهوت والعلمانيين. فمن المنظور البروتستانتي، قد تتمتع مهنة الإسكافي بنفس درجة تقوى وظيفة الواعظ. خدمة الأمهات لأطفالهن يمكن أن تُرى بنفس درجة نُبل توجيه رجال القانون التهم للمجرمين. علَّم الوعاظ الإنجيليون رعيتهم أن الحد الفاصل بين "المُقدَّس" و"العلمانيّ"، الذي أقامته كنيسة العصور الوسطى، غير موجود.
لا توجد مهنة وضيعة
قدَّم الإنجيليون مبدأين نبعًا من قدسية كل الأعمال والمهن وعلَّموهما. المبدأ الأول يقضي بأنه على كل المؤمنين "الالتزام" أو "التواجد في وظائفهم."1 شمل "التزام" الشخص بوظيفته الأمانة تجاه صاحب العمل وأداء الواجبات في مكان العمل. العمل الأمين مطلوب أداؤه للرب بشكل أساسي، لكن الخدام الإنجيليون أكدوا أيضًا على مبدأ العمل النابع من محبة القريب. وثبَّتوا المبدأ القائل بأن وظيفة المرء، أيًّا كانت، تخدم "الكومنولث" وتفيده مجتمعيًا كما اقتصاديًا.2 كذلك ذكَّر الخدام رعيتهم أن يكونوا راضين بوظائفهم والعمل الذي أعطاهم الرَّب.3
استنبط الإنجيليون تطبيقًا آخر يخص وظيفة المرء وعمله نبعًا من مبدأ "كل المساحات هي مساحات مُقدَّسة". دارت كتاباتهم وكلامهم حول الفكرة القائلة إنه بما أن الرَّب مهتم اهتمامًا عميقًا بكل الوظائف، وبما أن كل الوظائف مُقدَّسة، فإن الصلاة واجبة من أجل كل الناس، كل في مهنته. احتوت العديد من كتب الصلوات التي كتبها المصلحون، مثل كتاب (A flour of godly praiers) لمؤلفه "توماس بيكون" Thomas Becon (العام ١٥٥٠) على صلوات للولاة، والجنود، والملاحين، والمسافرين برَّا، والمحامين، والتجار، وأصحاب الأراضي، والأمهات.
داخل كتاب الصلوات هذا يقدم "بيكون" صلاة عامة، يستطيع جميع المؤمنين أن يرفعوها لله كيما يتمكن الجميع من "السلوك في مهنهم في مخافتك."4 في كتب الصلوات تلك الإنجيليون يُولُون الأمهات اهتمامًا خاصًا. تلقت الأمهات تشجيعًا من خلال العظات، كما ضمنيًا أيضًا من خلال كتب الصلوات، بأن عملهن المنزلي "إلهي". علَّمت كتب الصلوات المجتمع الإنجليزي ضمنيًا أن كل الدوائر مُقدَّسة ومستحقة رفع الصلاة لأجلها أمام الرَّب. لا يوجد عمل أو مهنة حقيرة بدرجة ينتفي معها التضرع من أجل تلقي بركة الرَّب فيها.
دعوة "للاجتهاد الصادق"
استند الإنجيليون في منطقهم أنه بما أن كل الوظائف والأنشطة مُقدَّسة أمام الرَّب، فإنه من الضروري على المؤمنين السعي باجتهاد في وظائفهم. شكَّل العمل الجاد، مع فضائله التابعة -ضبط النفس، وإدارة أهوائها، والمثابرة- فضيلة مسيحية جوهرية في طابع الإصلاح الإنجليزي. لم يكن هناك مكان للتبطُّل [أو الخمول والكسل] في الإطار الأخلاقي المسيحي.
في واقع الأمر أُدينت خطية التبطُّل في العظات والكتيبات الإنجيلية المطبوعة على نحو دائم. واُعتبِرَت خطية "جسدانية وفاسدة."5 كانت "منبع كل رذيلة وجذرها."6 أولئك المستعبدين للتبطُّل، تَدنَّت خطيتهم لتماثل "تقديم ذبيحة لا للرَّب بل للشيطان."7 تكرار نمط البطالة في حياة مؤمن مسيحي استدعى إلى مشهد حياته شكوكًا من نحو صدق تحوُّله وإيمانه. تعارض الكسل مع المسيحية الكتابية ولحق بقائمة خطايا أخرى تستوجب غضب الرَّب ودينونته -القتل، والزنا، والسرقة، والخيانة، والعِرافة، والتجديف.8
كان الفقر المتزايد في مناطق إنجلترا المعمورة بالسكان، خاصةً لندن، أحد الأسباب وراء تناول الاجتهاد والتبطُّل بشكل متكرر وبغيرة مستعرة في كتب أصول الإيمان باستخدام الأسئلة والأجوبة (Catechisms) والعظات الإنجيلية. لاحظ الإنجيليون أن كثيرًا من أسباب ذلك الفقر كان عزوف الرجال عن العمل وتبطُّلهم.
برز الاجتهاد موضوعًا متكررًا في المواد الإنجيلية الإنجليزية المطبوعة، وجرى التأكيد عليه مع أطياف المستمعين والقارئين المتنوعة بصرف النظر عن السن أو الوضع الاجتماعي. تلقى الأطفال في سن صغيرة تعليمًا عن قيمة الاجتهاد وفوائده من أبويهم من خلال كتيبات التعليم المسيحي في المنزل. كتب الأسئلة والأجوبة وأدلة الفضيلة التي سُطرت في طليعة الإصلاح شجعت الشباب للسعي باجتهاد "باذلين الجهد حتى إلى درجة الألم كلٌ في وظيفته"، مع الهروب من "التكاسل والإفراط في النوم."9 في كتاب الأسئلة والأجوبة لمؤلفه "ويليام پيركنز" William Perkins حثَّ الكاتب الأطفال والكبار على حد سواءً على "الكد والتعب"، لكنه كذلك ذكَّر المؤمنين أن الاجتهاد "لا ينفع شيئًا ما لم يمنح الرَّب بركته للعامل."10
شرح رئيس الأساقفة "توماس كرانمر" Thomas Cranmer في تعريفه للوعظ الحقيقي أن هدف الواعظ الإنجيلي انطوى جزئيًا على تعليم رعيته "إكرام الرَّب وعبادته، وخدمته باجتهاد، كلٌ في موقعه ومكانه ووظيفته."11 استنبط الخدام الإنجيليون بانتظام تطبيقات كتابية في عظاتهم على هذه المهن المحددة. "الاجتهاد الأمين" في "تجارة" المرء كان دعوة كل المؤمنين الحقيقيين ومنظورهم.12
أخلاقيات العمل الأمريكية المبكرة
كيف شكَّل منظور الإصلاح للوظيفة الأجيال التالية من البروتستانت؟ البيوريتانيون الذين عاشوا في القرن السابع عشر كانوا ورثة الإصلاح وتشرَّبوا الجانب الفكري والعملي للاهوت المصلحين السابقين. نقل التطهيريون والمهاجرون الذين عبروا الأطلسي مبحرين نحو العالم الجديد آنذاك نظرة الإصلاح نحو العمل بصفته وكالة تكريسية وامتيازًا مُقدَّسًا. على سبيل المثال عبَّر "كوتون ماثر" Cotton Mather -الذي عاش بين العامين ١٦٦٣ و١٧٢٨- عن الإطار الأخلاقي البيوريتاني حيال المسؤولية وإدارة الذات، قائلًا إنه ينبغي على جميع البشر "إن يحبوا"، بل و"يُعجبوا" بوظيفتهم لأنها "بركة أن يكون للمرء دعوة [مهنة]."13
أما "چون كوتون" John Cotton -الذي عاش بين العامين ١٥٨٥ و١٦٥٢- فقد رفع شأن الوظائف بكون جميعها تمجِّد الرَّب بالتساوي، مشجعًا بذلك المهاجرين الجدد أقرانه في بوسطن "لقبول" وأداء ما قد يُعتبر أحقر المهن وأكثرها اعتيادًا.14 فقد أكد أن الإيمان الحقيقي لا يخجل من أداء مهن كهذه لأن العمل أوجبَه الرَّب وقدَّسه. بنى (كوتون) طرحه على المثال الكتابي في غسل يسوع أرجل تلاميذه.
طبَّق المهاجرون الأمريكيون الأوائل هذه المبادئ الكتابية كلٌ في مهنته مؤسسين بذلك ما سيُعرَف لأجيال لاحقة بكونه أخلاقيات العمل الدؤوب ومثبِّتين المسؤولية الفردية. ساهم هذا الأمر جزئيًا في ازدهار المجتمع الأمريكي الجديد، لا سيما في جانبيه الاقتصادي والتعليمي.
ثبِّت عمل أيدينا
تصلح نظرة الإصلاح الإنجليزي للعمل والمهن لتكون نموذجًا صحيًا لنا اليوم. العمل المثابر والمنضبط والمتميز لأجل مجد الرَّب نُبل وفضيلة. هناك كرامة في كل مهنة وفي أداء الفرد لمهامه -بصرف النظر عن مظهر وضاعتها أو اعتياديتها- طالما بقينا معتمدين على الرَّب ليبارك ثمرها. يدعونا الرَّب لنعمل كل شيء، بما في ذلك وظيفتنا، بتفوق وفرح لمجده (١كورنثوس ١٠: ٣١). التبطُّل والتكاسل وغياب المسؤولية خطايا تستدعي الاعتراف وتستوجب التوبة.
التمس موسى من الرَّب نيابةً عن جماعة إسرائيل في مزمور ٩٠: ١٧ مصليًا: "..عَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْه." تعترف هذه العبارة المتواضعة باعتمادنا الكامل على الرَّب إذا أردنا أي نجاح في عملنا. ما لم يبارك الرَّب مهاراتنا وإدارتنا للوقت والتعليم الذي حصلنا عليه والفرص الوظيفية التي تتاح لنا ويستخدمها كلها، فلن ننجح فيها (مزمور ١٢٧: ١). الكل باطل من دون الرَّب وبركته (١كورنثوس ١٥: ٥٨). سيكون للعمل الذي نؤديه لأجل الرَّب قيمةٌ ورحية وأبدية (متّى ٢٥: ١٤- ٣٠).
الكل باطل من دون الرب وبركته، لكن حين يبارك الرب عملنا ووظائفنا، فلن يكون الأمر باطلًا.
مثلما فعل الإنجيليون في زمن إنجلترا الإصلاح يمكننا نحن أيضًا أن نؤسس لتوجُّه يعمل الكل لربنا من كل قلبنا (كولوسي ٣: ٢٣) سائلين إياه أن "يجعلنا مجتهدين وفرحين في أعمال وظيفتنا." 15
- Thomas Becon, A flour of godly praiers (London: John Day, 1550) STC 1719.5, sig. J4r; Robert Crowley, The voyce of the laste trumpet (London: Richard Grafton, 1549) STC 6094, sigs. B4v, B7v, D3v, D6r. ↩
- Brian L. Hanson, Reformation of the Commonwealth: Thomas Becon and the Politics of Evangelical Change in Tudor England (Göttingen: Vandenhoeck & Ruprecht, 2019), 41, 128. ↩
- Thomas Lever, A fruitfull sermon made in Poules churche at London (London: John Day, 1550) STC 15543, sig. G5v; William Turner, A new booke of spirituall physik (Emden: Egidius van der Erve, 1555) STC 24361, sig. B7r. ↩
- Becon, Flour of godly praiers, sig. J4r. ↩
- John Hooper, An oversight, and deliberacion upon the holy prophete Ionas (London: John Day and William Seres, 1550), STC 13763, sig. B8v. ↩
- Thomas Becon, The governance of vertue (London: John Day, 1566) STC 1727, sig. L6r. ↩
- William Perkins, An exposition of the Symbole or Creed of the Apostles (Cambridge: John Legatt, 1595) STC 19703, sig. I2r. ↩
- John Bradford, A sermon of repentaunce (London: S. Mierdman, 1553) STC 3496, sig. D7r; John Bradford, The complaynt of veritie (London: John Day, 1559) STC 3479, sig. C2v; John Bradford, Two notable sermons (London: John Awdely and John Wight, 1574) STC 3500.5, sig. B5v; Hooper, Oversight, sig. K8v. ↩
- Anonymous, The schoole of vertue and booke of good nourture for chyldren (London: William Seres, 1557), STC 22135, sigs. A6r, A3r. ↩
- William Perkins, An exposition of the Lords praier in the way of catechisme (Edinburgh: Robert Waldegrave, 1593), STC 19701, sig. E1v. ↩
- Thomas Cranmer, Certayne sermons, or homelies appoynted by the kynges Maiestie (London: Richard Grafton, 1547) STC 13640, sig. A2v. ↩
- Becon, Governaunce, sig. B3r. ↩
- Cotton Mather, Winter meditations: directions how to employ the leisure of the winter for the glory of God (Boston: Benjamin Harris, 1693), sig. I3v. ↩
- John Cotton, The way of life (London: M.F., 1641), sig. Ee7v. ↩
- John Bradford, A godlye medytacyon (London: William Copland, 1559) STC 3483, sig. A7v. ↩
بريان هانسون Brian Hanson هو أستاذ مساعد في مادتي التاريخ واللاهوت في Bethlehem College and Seminary في مينياپوليس بولاية مينيسوتا، وهو شيخ في كنيسة The North. هو مؤلف Reformation of the Commonwealth: Thomas Becon and the Politics of Evangelical Change in Tudor England الإصلاح في الكومنولث: توماس بيكون وسياسات التغيير الإنجيلي في منطقة تيودور بإنجلترا. لبريان وزوجته -جوانا- خمسة أبناء.
تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع هيئة "الاشتياق إلى الله" Desiring God، يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط: The Sacred Call to Normal Work





