كفاية الكلمة المُقدَّسة في زمن الرّيبة

نعيش في عصر فيه تُبخَس قيمة الحق، ويُتوَّج التراخي. لكل إنسان رأيه الخاص حول السبيل المؤدي إلى "الحقيقة الإلهية" - سواء كانت هذه الطريق نشوة ناتجة عن سمو روحي، أو جنةً، أو بإنكار الشخص الأمور الإلهية من الأساس. تقودنا هذه السُبُل إلى تأليه المادة أو تأليه أنفسنا. وفي غالبية الأحيان حين تواجهنا ضغوط ثقافية من هذا النوع، لا تُقدِّم كنائسنا استجابة إلا بنوع من برامج الإرشاد أو تدريبات المساعدة الذاتية التي تفتقر إلي اللاهوت المسيحي الثابت أساسُه والمعلوم مسيحيِّتُه.

وهكذا، يبقى التحدي الهائل لمواجهة هذه الضغوط هو تجديد إلتزامنا بكفاية الكلمة المُقدَّسة. ومثل الملك يوشيَّا حين قدَّم إليه حلقيَّا كتاب الشَّريعة الذي كان مُخفًى وأُعيد اكتشافه (٢ملوك ٢٢: ٨- ١٣)، يتعيَّن علينا تجديد إلتزامنا "...للذَّهابِ وراءَ الرَّبِّ، ولِحِفظِ وصاياهُ وشَهاداتِهِ وفَرائضِهِ بكُلِّ القَلبِ [قلوبنا] وكُلِّ النَّفسِ [نفوسنا]..." (٢ملوك ٢٣: ٣).

عندما نُقصِي الكتاب المُقدَّس، نفقد الأرضية التي عليها نقف، ولا يتبقى لنا سوى الأخلاقيات والبديهيات والأفكار الدينية وبرامج العمل والمفاهيم المتعلِّقة بصحة ثقافة ما. ما الترياق إذًا؟ إنه العودة مجددًا إلى النصوص الكتابية وتجديد ثقتنا في كلمة الله المُقدَّسة. يَعرِض بولس لكفاية الكلمة المُقدَّسة بشكل مباشر في (٢تيموثاوس ٣: ١٥ - ٤: ١). في كلماته نستطيع تحديد ثلاثة أمور فيها لا نحتاج إلا لكفاية الكلمة المُقدَّسة.

١- الخلاص

أولًا وقبل كل اعتبار آخر، "...الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ، قادِرَةَ أنْ تُحَكِّمَكَ [الإنسان] للخَلاصِ، بالإيمانِ الّذي في المَسيحِ يَسوعَ." (٢تيموثاوس ٣: ١٥). بعبارة أخرى، يدور الكتاب المُقدَّس حول يسوع. ففي العهد القديم، نرى نبوات عن يسوع. وفي الأناجيل، يتجسد يسوع. وفي أعمال الرسل، يكُرَز بيسوع. وفي الرسائل، يُفصَّل الحق عن يسوع. وفي الرؤيا، يُتوقَع يسوع.

اليوم تتناحر الحقائق المتطاحنة مقتنصة اهتمامنا وفي نهاية المطاف تحاول قنص إيماننا. ولا يَكمُن الحائل الأكبر أمام المسيحية في ما يخاله معظم الناس. فهم يظنون أن العدو الأعظم يتجسد في العلمانية أو الديانات المنافِسة للمسيحية مثل البوذية أو الهندوسية أو أي دين آخر.

لكن في واقع الأمر، يبزغ المُعطِّل الأكبر أمام المسيحية من الداخل: من محاولات التعميم الديني، وعرض النظريات الفلسفية، والأجندات السياسية أكثر من تقديم نعمة الإنجيل المُخلِّصة. نُغرِق أنفسنا إلى الأسافل حين تُتنقَص ثقتنا في كفاية الكلمة المُقدَّسة.

في كل مواضع الكتاب المُقدَّس يأتي إلينا الرب في حماقتنا وضلالنا مستخدمًا قوته في صنع المعجزات ليُخلِّص نفوسنا (١بطرس ١: ٢٣؛ يعقوب ١: ١٢). وبقدرته هذه يُمكِّن العُمي من الإبصار ويفتح آذان الصُم ليسمعوا. فالكتاب المُقدَّس فيه الكفاية المطلقة لإيماننا.

في يوحنا ٦: ٦٨ يطرح بطرس على يسوع السؤال: "... يا رَبُّ، إلَى مَنْ نَذهَبُ؟ كلامُ الحياةِ الأبديَّةِ عِندَكَ". وروح هذا السؤال عينُه هي ما نحتاج اليوم في كنائسنا: لمَن غير الكلمة المتجسد، المُستعلَن لنا في الكلمة المكتوبة، نتوجه لنتعلم الحقائق المجيدة المُختصَّة بإيماننا؟ 

٢- التغيير

في ٢تيموثاوس ٣: ١٦، ١٧، نرى كفاية الكلمة المُقدَّسة ليس فقط لخلاصِنا، ولكن أيضًا لتغييرنا التابع لخلاصنا: "كُلُّ الكِتابِ هو موحًى بهِ مِنَ اللهِ، ونافِعٌ للتَّعليمِ والتَّوْبيخِ، للتَّقويمِ والتّأديبِ الّذي في البِرِّ، لكَيْ يكونَ إنسانُ اللهِ كامِلًا، مُتأهِّبًا لكُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ".

في هذه العبارة الموجَزة والموجِزة تظهر حتمية الكتاب المُقدَّس لكل من النضج والنفع الروحيين. يُذكِّر بولسُ تيموثاوسَ أن أساس نفع الكلمة المُقدَّسة يَكمُن في حقيقة "أنها موحى بها". وسبب فائدتها الجمَّة لنا يعود لاختلافها عن سائر الكتب في العالم أجمع: إنها "theopneustos"، أي "نفخة الله".

 إن آمَنَّا بكفاية الكلمة المُقدَّسة، يتعيَّن على كنائسنا تكريس نفسها للعادات المغيِّرة للحياة، من التعليم والتوبيخ والتقويم والتدريب على البر - وكل ذلك بواسطة الكلمة المُقدَّسة وبالتوافق معها.

التعليم

غالبًا ما يَطلُب الخدامُ الشباب المشورة من الرعاة الأكثر خبرة، فيطرحون عليهم أسئلة من قبيل: "ما مفتاح الخدمة الفعالة؟ وأين ينبغي للراعي تركيز وقته وانتباهه؟" وأي إجابة ستُحسَب ذات قيمة تبقي هي نفسها دون تغيير: "علِّم الكتاب المُقدَّس!". قد يكون وقع الإجابة بسيطًا أو مُمِّلًا في ظاهره، ولكن تبقى حقيقةً مُلِّحةً: أن الكتاب المُقدَّس نافع لتعليم الإيمان، وهو مفتاح كل خدمة فعالة.

التوبيخ

الكلمة المُقدَّسة نافعة أيضًا للتوبيخ (الإنذار) -أي تصحيح الخطأ، والإشارة باتضاع إلى موطن انحراف الأمور إلى مسار خاطيء. قطعًا لا يعني هذا أن انتهار الخطأ يجب أن يكون برنامجنا الأوحد. ليس هذا ما قصده بولس، ولكنه يقول أننا فيما نشرح الكلمة، لا تزداد محبة المسيح في قلوب الناس وتشتعل نفوسُهم تجاه التزامهم بالإيمان مجدَّدًا فحسب، ولكن أيضًا تستقيم حياتهم محاذاةً مع حق كلمة الله. انحراف المعتقدات، مثلها في ذلك مثل انحراف السلوك، يجب أن تُوبَّخ، ويجب أن يجري ذلك دائمًا في روح من المحبة الحقيقية والترفُّق الصادق.

التقويم

وإضافة إلي إنذار بعضنا البعض لئلا نسلك سبيلًا معوَّجًا، نحتاج أحيانًا إلى تصحيح المسار كُليةً. فإذا كنا دائمًا ما نلعب على أوتار المشاكل دون تقديم بديل أو حل، لن نكون ذوي فائدة على الإطلاق. وللرعاة تُعَدُّ أفضل طريقة لتوجيه الناس إلى طريق أفضل هي الوعظ التفسيري الذي يأخذ مستمعيهم في رحلة طولُها وعرضُها الكتاب كله. تَكمُن الخطورة في الوعظ المواضيعي في استسهالنا الحديث عن ما يتبادر إلى أذهاننا أولًا -مثل الحلوى لذيذة الطعم- وتجاهلنا للطعام المفيد الغني بالمُغذِّيات التي نحتاجها لكن نادرًا ما نشتهيها.

التأديب الذي في البِرِّ

يسير الانضباط أو التدريب على طريق البّرّ بالتوافق تمامًا مع التقويم. نحتاج إلى التوجيه الإيجابي من أجل العَيش المسيحي. وشكرًا لله لمنحنا الكلمة المُقدَّسة التي ترشدنا. لتكن لك غذاءك! لتكن لك خارطة طريقك! لديك كل ما يلزمك في هذا الكتاب. "لتَسكُنْ فيكُم كلِمَةُ المَسيحِ بغِنًى،..."، كما لو كانت وجبة شهية مُغذِّية مشبعة لقلبك. (كولوسي ٣: ١٦)

٣- الإعلان

أن كفاية الكلمة المُقدَّسة لشعب الله من ثَمَّ تقود بولس لتكليف تيموثاوس بمهمة عظمى. وبعد كل ما قيل، هذه رسالة بولس الأخيرة إليه وهو يَعلَم ذلك (٢تيموثاوس ٤: ٦). إن كنت لتكتب رسالتك الأخيرة لأحدهم، فحتمًا ستسكب أكثر ما يشغل بالك. إذًا ماذا يقول بولس لتيموثاوس إذ يُسطِّر المقطع الختامي من رسالته الأخيرة؟

"أنا أُناشِدُكَ إذًا أمامَ اللهِ والرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، العَتيدِ أنْ يَدينَ الأحياءَ والأمواتَ، عِندَ ظُهورِهِ وملكوتِهِ: اكرِزْ بالكلِمَةِ. اعكُفْ علَى ذلكَ في وقتٍ مُناسِبٍ وغَيرِ مُناسِبٍ. وبِّخِ، انتَهِرْ، عِظْ بكُلِّ أناةٍ وتَعليمٍ." (٢تيموثاوس ٤: ١، ٢) 

الكلمة المُقدَّسة كافية، لا فقط لتمكين الناس واقتيادهم للخلاص، ولكن الكنيسة أيضًا تُبنى بكلمة الله. يمكنك جمع جمهور كبير بطرق كثيرة، ولكن الكنيسة تنمو بكلمة الله. أولئك المدعوون لامتياز الوعظ إذًا قد تلقَّوا تكليفًا بمهمة جسيمة.

كتب جي. آي. باكر J. I. Packer ١ أن الوعظ المسيحي هو "حَدَث فيه يقدِّم الله للحاضرين رسالةً الكتاب المُقدَّس أساسُها، والمسيح محورُها، وتغيير الحياة هدفُها، وهي رسالة تعليم وإرشاد من الرب نفسه من خلال كلمات متحدثٍ باسمه." حين نستخدم كهذا مقياس، يغدو واضحًا أن ليس كل أداء من خلف منبر هو وعظ حقيقي.

كثير من الكنائس تنشأ تحت خطباء ذوي معرفة، يتكلمون مُشدِّدين على أمور معيَّنة، لكنهم يفتقرون للتبكيت الإلهي. على أنه كثيرًا ما يُقوِّض نهجُ الواعظ توقُّعَ الجماعة بأن الرب على وشك الحديث إليهم من خلال كلمة الله، إذ تتركز أعينهم وآذانهم علي الأداة بدلًا من السيد، فلا نلمس قوة الروح القدس العامل في استفاقة قلوبنا، ولا نشعر بنخسِه نفوسِنا حتى نُدفَع للسؤال: "... ماذا نَصنَعُ  أيُّها الرِّجالُ الإخوَةُ؟" (أعمال ٢: ٣٧). وحتى يتأتى الوعظ المغيّر للحياة، يتعيَّن على كل من الواعظ والشعب الإتيان مُصلِّين ومُتوقِّعين سماع الرب من خلال إعلان كلمته كُلِّية الكفاية.

الكلمة وحدَها

إذا كان لنا أي رجاء في رؤية خلاص غير المؤمنين، ونمو القديسين في الإيمان، وتعظيم اسم يسوع بإعلانه وحده رأسًا لكنيسته، فلا سبيل أمامنا إلا بتجديد إلتزامنا بكفاية الكلمة المُقدَّسة. ليس غير كلمة الله تملأنا بمعرفة المسيح ومحبته الحقَّة.

ليس إلا كلمة الله قادرة على إرشادنا إلى طريق البر. وليس إلا كلمته -المُخترِقة قلوبنا بقوة روح الله المُمكِّنة- قادرة على بناء شعب الله.

الحقيقة هي أننا لن نزدهر مطلقًا، بل وربما حتى لن نبقي أحياءً، في وسط لُجَّج الثقافة العلمانية إلا إذا تمسَّكنا تمسُّكًا بالكلمة الموحى بها من الله. ليتنا جميعًا نطلب من الله أن يملأ قلوبنا وكنائسنا بمحبة المسيح من خلال الكلمة. وليتنا نتعهد بالبقاء جاثين على ركبتينا حتى يخترقنا الله بشغف من نحو كلمته كُلِّية الكفاية.

 أُخذ هذا المقال بتصرُّف من عظة "كفاية الكلمة" لأليستير بيج


J. I. Packer, “Some Perspectives on Preaching,” in Preaching the Living Word, ed. David Jackman (Fearn, Ross-Shire: Christian Focus, 1999), 28.


تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع موقع Truth For Life وضمن سلسلة من المقالات القيّمة التي ستقوم خدمة "الصورة" بنشرها باللغة العربية.

يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط: The Sufficiency of Scripture in an Age of Uncertainty