عقيدة سلطان الله
من أشهر وأهم ما يميز الكنيسة المصلحة هو عقيدة سلطان الله. وهي تعد أيضًا من أهم العقائد إن لم تكن الأهم عند المصلح الشهير جون كالفن، أبو الكنيسة المشيخية. والمقصود بسلطان الله هو أن الله متحكم في كل الأمور وكل ما يحدث في الكون بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة (دانيال ٤:٣٤‑٣٥).
وإذا سألنا معظم الناس وبالأخص المؤمنين عن سلطان الله فلن يُشكك فيه أحد بل سيأكدوا على هذا الأمر. ولكن إذا بدأت أن تحكي معهم في بعض التفاصيل ستجد إجاباتهم بها نوع من التشكيك في سلطان الله. ويتطور الأمر عندما تواجههم بهذا التناقض ليجدوا أنهم في حيرة من أمرهم وأنه في الغالب هناك أمر غير مفهوم بسبب التناقض الظاهري بين سلطان الله وبين حرية ومسئولية الإنسان.
هناك احتمالات كثيرة لردود الأفعال نتيجة هذا الصراع. إما أن يقلل الشخص من سلطان الله ويحاول تحويره لمجرد معرفة سابقة ليس إلا وليس تحكم كامل من الله مؤكدًا على مسئولية الإنسان فقط. الاحتمال الثاني هو تجاهل التناقض أو دعنا نقول تجاهل فكرة سلطان الله، مع أنه لا يرفضها، ويركز في مسئولية الإنسان فقط وكأن الله بعيد عنا ولا يهمه أو يعنيه ما يحدث. الاحتمال الآخر هو السلبية وإلقاء اللوم على الله بصفته متحكم ومتسلط وإعفاء مسئولية الإنسان إذ أن الله في جميع الأحوال سيفعل ما يحلو له أو ما رتب له. وكل هذه الاحتمالات خاطئة بشكل أو بآخر ولا تعبر عن الصورة الكاملة التي يرسمها لنا الكتاب المقدس.
فيما يختص بالاحتمال الثالث والذي ينادي بالسلبية في ضوء عقيدة سلطان الله، سنجد أسئلة من ينادون بهذا الحل على النحو التالي: إذا كان الله متسلط ومتحكم وقد رتب كل الأمور، فلماذا نصلي؟ ولماذا نكرز؟ ولماذا نفعل ما نفعله؟ ففي النهاية الله سينفذ مشيئته بأي حال من الأحوال حتى وإن لم أصلي أو أكرز أو أعظ. ولأن التركيز الأكبر في هذا المقال على موضوع الصلاة فستحوز الصلاة على الجانب الأكبر من الاهتمام وإن كنا سنتطرق لباقي الأمور بين الحين والآخر.
الصلاة دليل على سلطان الله
قبل المضي قُدمًا في أي شرح أو إجابة على السؤال المطروح يجب أولًا أن نؤكد أن إدعاء الصلاة ضد فكرة سلطان الله المطلق إنما هو إدعاء مغلوط. بل العكس تمامًا هو الصحيح. فالصلاة دليل على الإيمان في سلطان الله. فمن يصلي وكأنه يقول "أنا عاجز على إتمام الأمر الفلاني ولذلك أذهب لمن أثق أنه بيده الأمر لأطلب منه". فنحن عادة نطلب من الآخرين أن يفعلوا شيء من أجلنا في الوقت الذي نحتاج فيه إليهم. ففي الصلاة نذهب إلى الله لنقول له افعل شيء.
إذا فكرنا في موضوع الصلاة من أجل الخطاة واختبرنا كلماتنا التي نقولها في الصلاة سنجد أننا في كلماتنا نُعلن سلطان الله. فنجدنا نقول " يارب افتح عيني فلان" أو "يا رب افتح قلب فلان". هذا لأننا نعلم أنه إن لم يتدخل الله ويفتح القلب أو يفتح العين فلن يؤمن الشخص. ولكن لأننا نؤمن في سلطان الله وقدرته نطلب منه ذلك. كذلك في موضوع المرض، لماذا نذهب إلى الله لنصلي من أجل مرضانا؟ لأننا نعلم أن الله قادر أن يشفي وأن له هذا السلطان.
لماذا نصلي؟
لكن يبقى السؤال لماذا نصلي؟ مادام الله متسلط وسيفعل مشيئته في جميع الأحوال فلماذا نصلي؟ لماذا أصلي من أجل الخطاة إذا كان الله يعرف الذين له ويقدر أن يفتح قلوبهم دون مساعدتي أو بدون صلاتي؟ لماذا أصلي من أجل المرضى إن كان الله يقدر أن يفعل ذلك دون طلبي؟ كما أنه يعرف طلباتنا قبل أن نطلبها.
وللرد نقول:
- الصلاة تُعبر عن حالة قلبنا. فالصلاة هي إعلان إيمان وثقة في الله. تذكر يهوشافاط حين خرج عليه ملوك عِدة (٢ أخبار الأيام ٢٠:٦‑١٢). نجد أن يهوشافاط يعتمد على سلطان الله وهو يصلي وفي نفس الوقت يعترف بضعفه وعجزه واحتياجه إلى الله. ومع أن الإنسان قد خُلق ليكون في شركة مع الله وتواصل مستمر معه، إلا أن بسبب السقوط وكبرياءنا ضعفت أو لنقل زالت الرغبة في هذه الشركة والاعتماد على الله، ومن ثم حل الكسل والنسيان محل الرغبة والتعطش للصلاة والتواصل مع الله. لذا فمن يصلي يعترف ضمنًا أنه عاجز ويعتمد على الله فيما يصلي لأجله مهما كان هذا الأمر وبالتالي الصلاة تكشف حالة القلب. تذكر قول المسيح "...أَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا." (يوحنا١٥: ٥).
- الصلاة تُعبر عن حالة الشكر والامتنان التي نحن فيها أمام الله مانح الحياة. وإن قلت لماذا أشكر ولماذا أصلي؟ فكلنا نعرف أن الله متسلط وأنه من يمنح كل شيء، فلا داعي للصلاة. تأمل معي شعب إسرائيل وقصته مع الله عندما أعطاه المنْ. في البداية توقف الشعب عن شكر الله من أجل المنْ، ثم توقف عن الطلب وكأن الأمر مفروغ منه، ثم تطور الأمر بأنهم بدأوا يتذمرون من المنْ، وأخيرًا وصل به الأمر لطلب العودة إلى مصر والعبودية من أجل باقي أنواع الطعام. فعدم الصلاة لا تعني توقف العلاقة عند حد معين وإنما انحدارها.
- الصلاة ليست مجرد طلبات نطلبها من الله وإنما هي أيضًا ممارسة للشركة بيننا وبين الله. فالصلاة امتياز كبير يمنحه الله لنا. والأمر حقًا في غاية الغرابة، فما كان ينبغي أن نطلبه نحن أو نتوسل إلى الله لأجله، الله نفسه يطلبه منا. فالسؤال القائل بأن "بما أن الله يعرف كل شيء قبل أن أطلبها فلماذا أطلبها؟" هو سؤال يفترض أن ممارسة الصلاة بمثابة أمر له بعد أحادي وكأن الله ماكينة مصرف ونحن نضع بطاقة في هذه الماكينة لنطلب ما نحتاجه. الصلاة هي علاقة بين طرفين. ففي الصلاة نسبح الله ونشكره ونؤكد على عظمته ونعبر عن محبتنا وثقتنا فيه ونسمع وعوده ونلمس تعزياته. تخيل زوج وزوجة لا يُكلمان بعضهما البعض تمامًا لكنهم يعرفان جيدًا ما يحتاجانه من بعض دون أي حديث، هل تحب أن تحيا حياة مثل ذلك؟ في الصلاة الله يعطينا امتياز أن نعبر عن أعمق ما في داخلنا أمامه.
- إذا سألنا أنفسنا من الرابح من الصلاة أو من ينال البركة في الصلاة؟ هل الله يحتاج من يسبحه أو من يعترف بعظمته؟ حاشا، فالله مكتف بذاته من قبل حتى أن يخلقنا. ولكن ما أعظم امتياز أن نقف أمام الملك. (مزمور ٨٤:١٠) "...اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِفِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ." مَن مِنا لا يفرح إذا كان من المدعوين للوجود في محضر الرئيس أو الملك دائمًا حتى وإن كان حضوره صامتًا؟ فكم وكم يكون الحال إذا كان الملك يقول لك تكلم معي، هلم نتحدث عن أمور المملكة، هل تعمل معي في امتداد الملكوت؟ كاتب المزمور كان أكثر ما يحلم به هو الوقوف على باب الخيمة، وأقصى ما كان يمكن أن يحلم به شخص ما هو رئيس الكهنة بدخوله مرة واحدة إلى قدس الأقداس. اليوم في المسيح نحن مدعوين للدخول أمام عرش النعمة بثقة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونًا في حينه.
- الله في حكمته يستخدم الوسائل المختلفة لتمميم مقاصده. فالله متحكم في كل الأمور وله قصد من كل ما يحدث. فمثلًا الله قصد أن أكون موجود اليوم ولكن الله استخدم زواج أبي وأمي لأكون موجود. الله رتب أن شخص ما يؤمن ويصبح خادم لذلك يستخدم الله نهضة ما أو عظة ما أو كتاب ما ليفتح عين هذا الشخص على الإنجيل فيؤمن. في (أعمال ١٨:٩، ١٠) نرى بولس يذهب إلى كورنثوس ويمضي فيها سنة ونصف وذلك لأن الله في سلطانه قال له أن له أناس في هذه المدينة. فلم يسأل بولس من هم هؤلاء حتى اختصر الوقت واذهب إليهم مباشرة، ولا قال له بما أنك ستغير هؤلاء، دعني أذهب لمكان آخر. بل استمر في عمله وتعليمه الذي استخدمه الله لينفذ مشيئته وخططه. لذا يمكن القول أننا في جميع الأحوال أدوات في يد الله وننفذ مقاصده. ولكن يمكننا أن نكون منفذين مقاصده كيهوذا أو كبولس. وفي جميع الأحوال سيحاسبنا الله عما سنفعله وعن الدور الذي اختارنا أن نعيشه. ومن الأدوار التي يطالبنا بها الله أن نصلي من أجل الخطاة ومن أجل البشر. انظر كيف يكلم صموئيل شعب إسرائيل قائلا "وَأَمَّا أَنَا فَحَاشَا لِي أَنْ أُخْطِئَ إِلَى الرَّبِّ فَأَكُفَّ عَنِ الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ،..." ١صموئيل ١٢:٢٣. وفي حكمته يستخدم هذه الصلوات لتنفيذ مشيئته. فنحن نصلي لأن الله أمرنا أن نصلي.
- قد يقول قائل "أنا لن أفعل أي شيء لأنه في جميع الأحوال الله سينفذ ما يراه وما رتبه". إذا تأملنا في هذه المقولة نجد أنها في حد ذاتها قرار. فالسلبية قرار بأن لا أفعل شيء. هذا في حد ذاته قرار وسنُحاسب عليه.
- نحن نصلي لله من أجل امتداد الملكوت، قد يقول قائل "لماذا أطلب مادام هو سيصنع في جميع الأحوال؟". الله في محبته يقول لي تعال اعمل معي هذا العمل. بالطبع يستطيع الله أن يقوم به وحده دون أي تدخل مني، ولكنه في محبته يُشركني معه فأي امتياز لي وأي فضل منه. وكأن أب يطلب من ابنه المساعدة في إصلاح السيارة بأن يناوله العدة. بالطبع الأب يستطيع أن يصل للعدة وحده ويستخدمها ويصلح السيارة دون أي مساعدة من ابنه ولكن ما أعظم فرح الابن إذ اشترك مع ابيه في عمليه الإصلاح. كما أن علاقة الأب بابنه قد تعمقت وزادت بسبب الاشتراك معًا. فهل تعمل مع أبيك السماوي في الملكوت؟