مزمور ٩٠ هو الوحيد الذي يُنسَب إلى موسى في سفر المزامير. ويحاول البعض أن يتخيَّل الوقت المناسب الذي جعل موسى يكتب هذا المزمور. يقترح البعض أن يكون هذا حدث وقت موت أخته وأخيه في سفر العدد الأصحاح ٢٠، وهو نفس الأصحاح الذي ضَرَبَ فيه موسى الصخرة وكان مستحقًّا الموت لعصيانه. ويرى الآخرون أنَّ هذا المزمور يعبِّر عن تأمُّل موسى في حياة شعب إسرائيل الذي مات مُعظمه في البرِّيَّة في رحلتهم إلى أرض كنعان. تخيَّلْ كمَّ الأموات التي رآها موسى في حياته. لا أعرف كم جنازة حضرها موسى!
وسواء هذا أو ذاك، موسى يدعو إلى التأمُّل في قِصَر الحياة وخاصَّةً تحت دينونة الله العادلة على خطايانا. رأى موسى نهاية حياة إخوته وآلاف من الشعب حوله، وما رآه يجعله يقف ويتأمَّل في معنى الحياة والحكمة فيها.
موسى يدعونا اليوم إلى أن نقف لحظةً في خضمِّ الحياة التي نجري فيها ونسعى بلا توقُّف، ونتأمَّل في طبيعة حياتنا حتَّى لا نتفاجأ لحظةً في نهاية الحياة بأنَّنا أضعنا الحياة هباءً.
التأمُّل في ما يعلِّمه هذا المزمور يجعلنا حكماء. ولكن ما هي الأمور التي يشدِّد عليها المزمور والتي تجعلنا حكماء؟
١- الله الأزليُّ الأبديُّ
في وسط الموت المحيط به، في وسط ضعف وقِصَر الحياة، يبدأ موسى المزمور بالمكان الصحيح الذي يجب أن يلجأ إليه ونلجأ إليه نحن أيضًا، ألا وهو أزليَّة الله نفسه. إنَّ مصدر عزاء وراحة موسى في المزمور هو طبيعة الله الأزليَّة. فالله لا يتغيَّر، بل هو موجود من قبل أيِّ شيء وفوق كلِّ شيء، لا يعتريه تغيير ولا ظلُّ دوران. إنَّ الله لا يشيخ أو يضعف.
عندما نقول إنَّ الله أزليٌّ أبديٌّ فهذا يعني أنَّ لا بداية ولا نهاية له، فالزمن لا يؤثِّر فيه. في عالم يتغيَّر حولنا وفي ظلِّ حقيقة تغيُّرنا نحن شخصيًّا يومًا بعد يوم، يوجِّه موسى أنظارنا إلى الله الثابت أكثر من الجبال. الله الذي يعرف كلَّ شيء ويرى كلَّ شيء. انظر ماذا يقول عن علاقة الله بالزمن في عدد ٤ "لِأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ ٱللَّيْلِ". هل تتخيَّل ما يمكن أن يحدث في ألف سنة؟ فكِّرْ في كلِّ الأحداث والتفاصيل والممالك التي قامت وسقطت. بالنسبة إلينا ألف سنة هي شيء كبير جدًّا. تخيَّل كمَّ الكتب والمقالات والفيديوهات التي يمكن أن تكون قد أُنتِجَت في فترة ألف سنة. بالنسبة إلى الله كلُّ هذا كلا شيء. فهو لا يتفاجأ ولا يتابع الأحداث مثلنا، لا تتخيَّل أنَّه مجرَّد يتوقَّع ما سيحدث بنسبة عالية، فالله يعرفه تمامًا ويراه بتفاصيله دون جهدٍ أو احتمال نسيان أو تغافل أيِّ شيء. من يمكنه أن يؤثِّر على حُكم الله وقضائه وتحكُّمه في كلِّ شيء.
التأمُّل في هذه الحقيقة، حقيقة ثبات الله وأزليَّته، هو مصدر عزاء لشعب الله ويقين بخلاصهم وأبديَّتهم معه.
٢- الحياة البشريَّة العابرة
في مقابل طبيعة الله الأزليَّة الثابتة التي لا تتغيَّر، يُحدِّثنا موسى عن الطبيعة العابرة لحياتنا كبشر. نحن لا نفكِّر في قِصَر الحياة ونحن في سنٍّ أصغر. ونحن في سني المراهقة، نرى الحياة أمامنا طويلة جدًّا والعمر طويلاً، ثمَّ بعد سنِّ الثلاثين أو الأربعين، نتفاجأ بأنَّ نِصْفَ الحياة بالفعل قد مضى، ثمَّ بعد ذلك وعند نهاية العمر ندرك أنَّ الباقي أقلُّ ممَّا مضى. ثمَّ ننظر إلى الوراء ونقول "متى جرى العمر؟ كيف مرَّت الأيَّام بهذه السرعة؟" ونكتشف أنَّ الحياة قصيرة حقًّا وخاصَّةً بالمقارنة مع الله الأزليِّ الأبديِّ.
انظر معي التشبيهات التي يذكرها موسى وهو يتكلَّم عن قصر حياتنا: "كَسِنَةٍ يَكُونُون"، أي يزولون كالحلم عند الصباح. وأيضًا يقول كالعشب الذي يزول سريعًا (عدد ٥). أليست هذه هي حقيقة حياتنا؟ نحن ننشغل بتفاصيل حياتنا اليوميَّة وبأعمالنا ونجاحاتنا وترقياتنا وزيجاتنا وأولادنا، وأنا لا أقول ألاَّ نهتمَّ بهذه الأمور، ولكن يجب أن نتأمَّل في حياتنا وأولويَّاتها في ظلِّ ملكوت الله. لو سألت أيَّ أحد هنا عن جدِّه، فقد تتذكَّره، لكن لو سألتك عن والد جدِّك سيكون الأمر أصعب، بالكاد ستتذكَّر اسمه أو ربَّما أين كان يعيش، لكنَّك غالبًا لن يكون لديك معلومات لتتحدَّث عنه. لا أحد يتحدَّث عنه أو عمَّا فعل، أليس كذلك؟ بعد خمسين عام من الآن، لن يتذكَّرنا الناس أو يشغلهم ما كنَّا نمرُّ به من تفاصيل الحياة. لذلك سؤالي لك اليوم: ماذا تريد؟ ماذا تريد في هذه الحياة؟ ما هو الهامُّ بالنسبة لك؟
لكنَّ موسى لا يتكلَّم فقط عن قِصَر الحياة لكنَّه يبرز حقيقة الموت أيضًا التي لا مفرَّ منها. لذلك يستخدم هذا الفعل في بداية عدد ٥ "جَرَفْتَهُمْ". علمًا بأنَّ قِصَر الحياة أو حتميَّة الموت ليست جزءًا أصيلًا من طبيعتنا الإنسانيَّة بالخلق وإنَّما صارت واقعًا بسبب الخطيَّة وغضب الله على الخطيَّة. هذا هو العالم الذي نعيش فيه الآن، عالم السقوط. فنحن نضعف ونتَّجه إلى الموت والدفن في التراب وهذا بسبب قضاء الله على الخطيَّة. هذه هي حقيقة هذه الحياة التي نحياها الآن. يجب أن نتذكَّر أنَّ الموت هو إعلان عن غضب الله على الخطيَّة. إنَّ حقيقة الموت تواجه كبرياءنا وتذكِّرنا بسلطان الله التامِّ على حياتنا وأيَّامنا كما تذكِّرنا بموقفه من الخطيَّة. فحقيقة الموت هي تعبير عن قداسة الله وكماله. مشكلات وضعف هذه الحياة هي إشارة دائمة إلى موقف الله من الشرِّ والخطيَّة.
التأمُّل في هذه الحياة بكلِّ ما فيها من آلام وضعف وموت هو بوق من الله يعبِّر به عن قداسته ورفضه للشرِّ والخطيَّة.
حتَّى بالنسبة إلى المؤمنين يجب أن نفهم أنَّ الله لا يأخذ خطايانا باستخفاف! انظر ماذا يقول موسى "مَنْ يَعْرِفُ قُوَّةَ غَضَبَكَ؟ وَكَخَوْفِكَ سَخَطُكَ" (عدد١١). لذلك من الحكمة أن نتذكَّر قوَّة الله وقداسته وأن تكون مخافته أمام أعيننا! رأس الحكمة هي مخافة الله! كلُّ هذه الصور تعبِّر عن قِصَر الحياة مهما بدت طويلة، كما تبرز كم يحدث الأمر سريعًا. هذه هي حياة البشر، في لحظة تنتهي. يحيا الناس وهم ينسون هذه الحقيقة: لا شيء ثابت وراسخ سوى الله ووعوده. من دون أن يكون لدينا إدراك بطبيعة الخطيَّة واستحقاقها من الله العادل الأزليِّ الثابت لا يمكن أن نكون حكماء. كلُّ يوم هو عطيَّة من الله.
يحيا الناس بفُجْرٍ مستمرِّين في خطاياهم وهم ناسون وجود الله وثباته وقدرته. مع العلم أنَّ الحياة تعلِّمنا مرَّات ومرَّات كيف يمكن أن تنقلب الأمور بين ليلة وضحاها. فزيارة لطبيب أو نشوء حرب أو أزمة اقتصاديَّة قد تقلب الحياة رأسًا على عقب. هذه هي الحياة التي نعيش فيها. نتخيَّل أنَّنا متحكِّمون في كلِّ الأمور أو أنَّنا نستحقُّ أمورًا أفضل. إنَّه لمن الحماقة أن نبني أماننا ورجاءنا على رمال هذا العالم وما يعطيه من رجاء.
٣- أولويَّة الأمور الأبديَّة
لكن في ظلِّ ما قرأناه عن طبيعة الله الأزليَّة الثابتة وطبيعة الإنسان العابرة، كيف يجب أن ننظر إلى الحياة والموت؟
أوَّل شيءٍ وفي ظلِّ حقيقة الموت الذي دخل إلى العالم بسبب الخطيَّة، أين يجب أن نهرب؟ لا يوجد مفرٌّ إلاَّ في ذاك الذي ذاق الموت لأجل شعبه وقام، يسوع المسيح. فهو ملجأنا وحِمَانا الوطيد. وهو ما بدأ به موسى المزمور: "يَا رَبُّ، مَلْجَأً كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ" (عدد ١). فبمفردنا نحن حقًّا مثل العشب الذي يُقطَع أو يزبل ويطير ولا يتذكَّره أحد. لكن في المسيح فلنا في السماء بيت أبديٌّ.
لذلك اِجعلْ أولويَّاتك واهتماماتك تتناسب مع ما هو أبديٌّ وليس ما هو وقتيٌّ وأرضيٌّ.
لا تضيِّع حياتك وتذكَّر أنَّ أيَّامنا قصيرة في هذه الحياة التي تمضي سريعًا جدًّا. انظر ماذا يقول في عدد ١٢ "إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هَكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ"، فالوقت عطيَّة غالية من الله لا يجب أن نبدِّدها أو نهدرها.
لكن آخر ما يدعونا إليه هذا المزمور لنطلبه من الله، وخاصَّةً في ظلِّ قصر الحياة وأزليَّة الله، هو أن يتحنَّن الرّبُّّ علينا وينعم علينا بأن يفرِّحنا ويشبعنا بما لدينا (عدد ١٤، ١٥)، وأن يعمل فينا لنقوم بأمورٍ بأيدينا يتخطَّى تأثيرها هذا العالم. نعم، يستخدم الله شعبه ويعمل فيهم ليكون لأعمالهم تأثيرات أبديَّة في ملكوت الله. فصلِّ لكي يكون لحياتك وخدمتك في الوقت الصغير الذي يمنحك الله إيَّاه تأثيراتٌ أبديَّة. فالبذار التي تزرعها اليوم في ملكوت الله بنعمة الله قد تستمرُّ إلى الأبد. علمًا بأنَّ هذه الأعمال التي يمكن أن نعملها ليكون لها تأثير أبديٌّ لا يمكن أن تحدث من دون أن يظهر فعل الرّبِّّ لعبيده وجلاله لبنيهم (عدد ١٦). نريد أن نرى يسوع وعمله وبهذا يمكن أن نعمل أعمالًا لها تأثير أبديٌّ!