ما القاسم المشترك بين أفضل وعَّاظ التاريخ؟

كتب الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا George Santayana عبارته المشهورة: "الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم بتكراره." يقينًا عَبَرت هذه الفكرة إلى عالم الأقوال المأثورة منذ ذلك الحين، لكن الحقيقة الأعمق وراء القول المُكرَّر محفورة في تعاليم الرسول بولس: "لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لِأَجْلِ تَعْلِيمِنَا،..." (رومية ١٥: ٤).

في حين يعجز التعلّم من الماضي عن إقصاء المتاعب بالضرورة، إلا أنه قد يمنح بصيرة ثاقبة حول كيفية عيشنا في الحاضر. والقول لا ينطبق على بُلدان وحكومات فحسب، لكن على الكنائس والقسوس أيضًا. آخذين القول في الاعتبار، لنفحص بإيجاز تاريخ الوعظ كما نجده موصوفًا في الكتاب المُقدّس وممارَسًا في حياة قادة الكنيسة على مر القرون.

الوعظ في العهد القديم

حين نقرأ أسفار العهد القديم، نكتشف أنه حتى قبل تأسيس كهنوت رسمي، جَرَت الوظيفة الكهنوتيّة على يد كل أبّ في بيته فيما تحدَّث مع أبنائه عن رحمة الله المُعلَنة في عهده. فقد كان لكل أبّ قطيع صغير خاص، وأدرك كل أبّ المُهمّة الموكَّلة إليه بإرشاد أولاده على طريق الله (مثلًا في تكوين ١٨: ١٩). كما أننا نقرأ في ٢بطرس ٢: ٥ أيضًا، أنه من بين جميع الألقاب التي كان ممكنًا أن يمنحها الرسول لنوح، أشار إليه بعبارة "كَارِزًا لِلْبِرِّ" أي واعظًا بالبِر. وبالمثل، عندما عُيِّن الشيوخ في زمن موسى، نجد أنهم تنبأوا، ولو لبعض الوقت (عدد ١١: ٢٥).

عبر أسفار العهد القديم نرى نموذجًا متكررًا للتعاليم النَّبويّة -وهي نَبويّة بمعنى إرساليّة البشر لإعلان كلمة الرّبّ الحية لأجيالهم. على سبيل المثال، أولئك الذين عُيِّنوا في زمن يهوشافاط "فَعَلَّمُوا فِي يَهُوذَا وَمَعَهُمْ سِفْرُ شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ، وَجَالُوا فِي جَمِيعِ مُدُنِ يَهُوذَا وَعَلَّمُوا ٱلشَّعْبَ" (٢أخبار الأيام ١٧: ٩).

حين أقام الله أفرادًا مثل هؤلاء، كان يوضِّح تمامًا أنهم سيحملون "سِفْرُ شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ". كان لسان حال أولئك الذين تلقَّوا تعاليمهم: "ها صاحب اللفائف آتٍ. لنذهب ونستمع لحامل السفر. كلِّمنا بما في داخل الدَرَج!” لم يكن للواعظ حامل السفر أن يقول الكثير خارج المكتوب في اللفافة المحمولة بين يديه. لم يكن هؤلاء الوعاظ خبراء في الأمور الاجتماعية والسياسية جميعها، لكنهم استودعوا أنفسهم للكتاب المُقدّس -وكان سبب تجوالهم في مدن يهوذا هو التعريف بما في الكتاب.

في فحصنا فترة ما بعد السبي، نجد الشرح الكلاسيكي لمهمة الوعظ: صورة عزرا الرائعة لمَّا دُعي لدراسة ناموس الله وتعليمه (عزرا ٧: ٩، ١٠). يحوي سفر نحميا وصفًا مدهشًا لعزرا واقفًا "عَلَى مِنْبَرِ ٱلْخَشَبِ" (نحميا ٨: ٤) حيث يمكن للجمهور المُجتمِع رؤيته وسماعه عند قراءة سفر الشريعة بصوت عال "مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ ٱلنَّهَارِ"، وهكذا نرى النتيجة "وَكَانَتْ آذَانُ كُلِّ ٱلشَّعْبِ نَحْوَ سِفْرِ ٱلشَّرِيعَة" (نحميا ٨: ٣). لم يكن عزرا وحده، بل انضم إليه آخرون، ما ضاعف تأثير كلمات عظته: "وَقَرَأُوا فِي ٱلسِّفْرِ، فِي شَرِيعَةِ ٱللهِ، بِبَيَانٍ، وَفَسَّرُوا ٱلْمَعْنَى، وَأَفْهَمُوهُمُ ٱلْقِرَاءَةَ." (نحميا ٨: ٨).

هذا هو جوهر الوعظ التفسيري. كما كان آنذاك، هكذا هو اليوم:

الوُعَّاظ مُعيَّنون لقراءة الكتاب المُقدّس، وإيضاحه ببيان، وتفسير المعنى -بتمكين الرّوح القُدُس- حتى يقدر الناس على فهمه وتطبيقه على حياتهم.

يقينًا تقدِّم هذه الآية [نحميا ٨: ٨] الأسئلة المهمة التي يجب أن نطرحها كلما استمعنا لتعاليم حول الكتاب المُقدّس: هل التعليم مأخوذ عن سفر الشريعة؟ وهل شرحناه بوضوح؟ وهل فسرَّنا المعنى؟ وهل يفهم الشعب؟

الوعظ في العهد الجديد

منذ بداية خدمة يسوع، بات واضحًا أن الوعظ بكلمة الله كان أولويته أيضًا. استقى يسوع كل كلماته وأعماله من الكلمة المُقدّسة.

في أول إصحاحات إنجيل مرقس، على سبيل المثال، وبعد أن شفى يسوع الكثيرين وطرد الشياطين من المصروعين، نسمعه يقول لتلاميذه: "لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْقُرَى ٱلْمُجَاوِرَةِ لِأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لِأَنِّي لِهَذَا خَرَجْتُ" (مرقس ١: ٣٨). ثم خرج "يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ ٱلْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ" (الآية ٣٩). ثم بعدها نجد يسوع في المجمع في الناصرة في لوقا ٤ يقرأ من سفر إشعياء، ثم يعلن: "إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ" (لوقا ٤: ٢١). وحتى بعد قيامته، يتعامل مع التلميذَين العابسَين المسافرَين على طريق عمواس في لوقا ٢٤ إذ فسَّر "...لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ". ماذا كان يسوع فاعلًا؟ كان يعظهُما وعظًا تفسيريًّا!

النموذج الذي أسسه يسوع هو ذلك الذي اتبعه الرُّسل لاحقًا. أتخيّل ابتهاج المسيح فيما نظر من عُلاه بطرس -بطرس، الأقل احتماليّةً من الكُلِّ- واقفًا يُلقي عظة تفسيريّة هائلة أعمال الرُّسل ٢. ومَن سار على نهجه؟ جميع وعّاظ أعمال الرُّسل.

إن الوعظ الموجود في الكتاب المُقدّس مؤسَّس على الكلمة المُقدّسة، ومركزه المسيح، وغايته العظمى هي مجد الله.

وعندما ننظر إلى الكتاب المُقدّس، نكتشف أن هذا النوع من الوعظ لم ينتهجه يسوع وأتباعه فحسب، بل تبعهم أيضًا وعّاظ يومنا هذا.

هل نضع هذه الحقائق في الاعتبار؟ هل نقود الناس إلى الكتاب المُقدّس؟ هل نساعد في زرع بذور جوع حقيقي من نحو كلمة الله؟ هل نجذب انتباه الناس نحو يسوع؟

الوعظ بين آباء الكنيسة الأوائل

إذا كان الكتاب المُقدّس وحده ما يقدِّم المقياس الممكن تقييم الوعظ المسيحي الأصيل على أساسه، فماذا نستقي عن الوعظ من زمن العهد الجديد وحتى زمن آباء الكنيسة الأوائل؟

في أيام الكنيسة الأولى، اتبع أناس مثل إغناطيوس Ignatius ويوستينوس الشهيد Justin Martyr نفس نمط الوعظ هذا، حيث جسَّدت كتاباتهم الالتزام بتفصيل الكتاب المُقدّس وإعلانه. وحين نتأمل حياة رجال مثل إكليمندس السكندري Clement of Alexandria وأوريجانوس Origen، نكتشف أنهم بنوا جسرًا من الإعلان الأمين استمر حتى زمن يوحنّا ذهبيّ الفم Chrysostom وأغسطينوس Augustine. فعبر تلك الفترة، استمر الوعظ دون توقُّف، حتى تحت ضغط المؤثرات العاملة على تقويض الوعظ المؤسس على الكتاب المُقدّس وتفتيت عَضُد المتمسكين به. استمر الوعظ ومركزه المسيح، وغايته النهائية العظيمة هي تمجيد الله.

استخدام الرمز كان التأثير الأول الذي قوَّض الوعظ الكتابي. في القرون الأولى، خدع بعض الوُعَّاظ مستمعيهم من خلال التأكيد أن كل شيء تقريبًا في الكتاب المُقدّس يعني شيئًا آخر في الواقع. ولكثيرين أصبح الكتاب المُقدّس يُشبِه صندوقًا من أدوات الخداع، حتى أخذ البعض يفسرون الكتاب المُقدّس مثل سَحَرَة يُخرجون الأرنب من القُبعة. إلى يومنا هذا يكمُن خطر كبير في أي وعظ يميل لإثارة فضول الناس عن طريق تحريف الكتاب المُقدّس بإبعاده عن متناول راغبي فهمه، فيبدو كَلُغْز لن يتمكن أبدًا من فهمه شخص عادي في الجماعة.

العامل الآخر المقاوِم للوعظ الكتابي هو التركيز على البلاغة، وهو نهج سعى في المقام الأول إلى إثارة إعجاب راغبي التعلُّم. هذه المقاربةُ ناقضت منهجَ بولس الذي اتبعه في مدينة كورنثوس كما نراه واضحًا في (١كورنثوس ١، ٢). وبينما تمتَّع بولس ببراعة حقيقية، إلا أنه قرر عدم إشباع رغبة المثقفين في عصره حتى يتمكن من إعلان "جهالة" الصليب.

التأثير الثالث المقوِّض للوعظ كان تطوُّر الليتورجيا التي قلَّصت الشرح الكتابي. وعلى الرغم من أن هذه الليتورجيا غالبًا ما احتفظت بقراءات من الكتاب المُقدّس مع ترديدات لأنشودات عظيمة، إلا أن تطوُّر الليتورجيا الجامدة مال إلى تقليل دور الوعظ داخل الكنيسة. ويجب محاربة هذا الاتجاه نفسه في يومنا هذا! لا يكفي غناء الترانيم المُسِرَّة، ولا تلاوة الصلوات المكتوبة ببلاغة، بينما تُقرأ كلمة الله فقط على مسامع شعبه.

يجب أن يُعلَن الكتاب المُقدّس لشعب الرّبّ. ويجب أن يُفرد للوعظ مساحته ومكانه. 

الوعظ خلال فترة الإصلاح وما بعدها

اجتازت الكنيسة حقبة مظلمة في تاريخها من أغسطينوس حتى الإصلاح. لمع ضوء خافت، لكن العوامل المذكورة أعلاه، أي سوء استخدام الرمز، والتركيز على خطاب البلاغة، والليتورجيا، تشابكت كلها وضُفِرَت مع الميول التّكهُّنيَّة والتَأمَُليَّة التي صاحبت منطق أرسطو Aristotle حتى تضاءل الوعظ الكتابي الذي يُمجِّد الله وخبا نوره إلى حد كبير. ولذلك كان لا بد للإصلاح أن يأتي.

في الإصلاح، تعرَّفنا إلى جون كالفين John Calvin، وأولريش زوينجلي Huldrych Zwingli، وهينريش بولينجر Heinrich Bullinger، وجون ويكليف John Wycliffe، ويان هوس Jan Hus، وغيرهم الكثير. ماذا فعل هؤلاء؟ بشكل أساسي عادوا بتفكيرهم إلى ذهبي الفم، وإلى أغسطينوس، وإلى النموذج الرسولي، قائلين: "يجب أن نحذو حذوهم، يتعيَّن علينا تأصيل وعظنا في الكتاب المُقدّس".

ضم عصر ما بعد الإصلاح الكثير من الوُعّاظ الذين ما تزال أفكارهم تُقرأ وتُقدَّر على نطاق واسع حتى اليوم، ومنهم رجال مثل جوناثان إدواردز Johnathan Edwards وجورج ويتفيلد George Whitefield والأخوان ويسلي Wesley brothers وتشارلز سيميون Charles Simeon وتشارلز سبرجن Charles Spurgeon. وفي كل عظاتهم الرائعة نجد الشيء نفسه يتكرر: وعظ مؤسس على الكتاب المُقدّس، ومركزه المسيح، وغايته تمجيد الله. كان ذلك مفتاح نجاحهم.

فيما نتأمل التاريخ، من إصحاحات الكتاب المُقدّس الأولى وصولًا إلى يومنا هذا، نجد أنه في حين تغيرت الظروف، بقيَ الوعظ الأمين ثابتًا. زوَّدنا الله في كلمته بخارطة طريق لتساعدنا في السير في الطريق الواجب علينا أن نسلكه، من دون أن تغفل المخاطر التي قد نواجهها بطوله.

يشهد كل من الكتاب المُقدّس والتاريخ على نوع الوعظ الذي يختار الله أن يباركه. إنه الوعظ المؤسس على الكتاب المُقدّس، ومركزه المسيح، وغايته مجده. ولأن الله وضع ختمه على هذا النوع من الوعظ، فإن الجيل الحالي من قادة الكنيسة، وكل جيل آتٍ، يفعل حسنًا ويُحسَب حكيمًا إنْ بذل كل اجتهاد لتتميم المهمة الموكلة إلينا.

هذا المقال مُقتبس عن عظة "مسح تاريخي عن الوعظ" لأليستر بيج


تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع موقع Truth For Life وضمن سلسلة من المقالات القيّمة التي ستقوم خدمة "الصورة" بنشرها باللغة العربية.

يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط: What Do History’s Best Preachers Have in Common?