فيما يبدأ كاتب المزمور التماسه للرّبّ في مزمور ١٣٠، يصف نفسه موجودًا كأنما في مكان مجازي: "مِنَ الأعماقِ صَرَختُ إلَيكَ يا رَبُّ". لكُتَّاب المزامير بالعِبريّة وقُرَّائها، اُصطلح على استخدام "الأعماق" تعبيرًا عن البحر، والبحر كان مكانًا محفوفًا بالخطر. ومتى ذكروا الأعماق، دار حديثهم حول الغرق.
الكثير منا اختبر ما يصوِّره المزمور، فذلك المكان أحيانًا فيه نجد أنفسنا غارقين في مصاعب الحياة وإغراءاتها. عالمنا مكسور، والمصاعب تلُّفه من كل جانب، وجميعنا سيجد نفسه في الأعماق في وقت أو آخر من الحياة. عندئذ نفهم حقًا لماذا صرخ كاتب المزمور:
"يا رَبُّ، اسمَعْ صوتي.
لتَكُنْ أُذُناكَ مُصغيَتَينِ
إلَى صوتِ تضَرُّعاتي" (مزمور ١٣٠: ٢)
هذه ليست صلوةً عابرة ولا معتادة، إنها صرخة استغاثة! وهي صرخة يستجيبها الرّبّ.
لُطف الله
وبينما نحيا في احتياج ماسٍ الي رحمة الله كل لحظة، إلا أننا لا ندركه في الكثير من الأحيان. نحب أن نتقدم على طريق حياتنا متظاهرين أننا نستطيع كفاية أنفسنا. ومن فرط رحمة الرّبّ علينا، وحتى ينفض عنا غفلتنا، قد يقتادنا إلى الأعماق (عبرانيين ١٢: ٥- ١١). لماذا؟ لأننا في هذه الأعماق عينها ندرك احتياجنا العميق ونرفع صرخاتنا أمام أبينا الذي في السموات.
نرى هذا حادثًا في حياة يونان حين يهرب من وجه الرّبّ. ففي لطف الله، يستحوذ الرّبّ على انتباه يونان بإلقائه حرفيًا في البحر ومنه إلى أحشاء السمكة العظيمة (يونان ١: ١٥- ١٧). وهناك من أحشاء تلك السمكة العظيمة، يدير يونان وجهه رجوعًا الى الرّبّ صارخًا لينال الرحمة التي طالما احتاجها (يونان ٢).
شهد اللاهوتي البيوريتاني الشهير جون أوين John Owen أن الرّبّ عمل بهذه الطريقة في حياته، إذ كتب: "لم يكن لديَّ إلا القليل –إن وُجد- من المعرفة الاختباريّة حول الإتيان إلى الآب من خلال يسوع المسيح، حتي سُرَّ الرّبّ أن يزورني بضيقات مريرة، فيها كنتُ قاب قوسين أو أدنى من القبر، وبها رزحت نفسي تحت وطأة رعبة مظلمة". وعبر تجربته في الاعماق، وفي سير لصيق مع مزمور ١٣٠، تلقَّى أوين "الإرشاد، والسلام، والتعزية في الاقتراب الى الله".
أعماق الخطية
الاعماق حيث يجد كاتب المزمور نفسه ليست فقط تلك التي خلقتها الظروف الصعبة. كلا، بل يجد نفسه في اعماق خطيته الشخصيّة: "إنْ كُنتَ تُراقِبُ الآثامَ يا رَبُّ، يا سيِّدُ، فمَنْ يَقِفُ؟" (مزمور ١٣٠: ٣)
الكثير من ظروف الحياة قد تقتادنا إلى الاعماق،
لكن أعمق هوّة قد نجد أنفسنا فيها يومًا هي هوّة تعدياتنا الشخصيّة.
هوّة خطيتنا عميقة ومظلمة جدًا، بدرجة ينتفي معها مطلقًا أي سبيل لإخراج أنفسنا منها. هوّة فسادنا سحيقة لا يسعنا فيها الانتظار الساذج متوقعين انتهاء الأزمة، أو زوالها بمرور الوقت. هوّة تعدياتنا لن يُشفي فيها جُرحنا أبدًا. أدرَكَ كاتب المزمور فداحة جُرمه وخطاياه واستحالة إخفائها عن الإله الأبدي كلي السيادة.
الله قدوس، وكلِّيّ العلم، ووازن أفعالنا. يعلم ما نقوله في الخفاء، ويعرف رغبات قلوبنا الشهوانيّة. يرى الرّبّ كل أفكار نجسة تتمخض عنها أذهاننا. وإن كان ليحسب خطايانا مُعيِّرًا إيانا، يتلاشى كل رجاء لنا في البقاء. ليس لنا التماس نقدمه أمام منصة قضاء الله سوي عبارة: "مذنب كما في صحيفة تُهَمي".
رجاء المغفرة
لا يمكننا الهرب من طبيعتنا الخاطئة، ولكن بإمكاننا طلب المساعدة. بمجرد إدراك كاتب المزمور بانتفاء رجائه في نفسه، استطاع الشهادة بأن رجاءه الوحيد كان في الرّبّ ليس إلا، قائلًا: "لأنَّ عِندَ الرّبّ المَغفِرَة..." (مزمور ١٣٠: ٤). بالرغم من كوننا مذنبين نصارع أعماق الخطية، فالله، وهو غني في الرحمة، يقدم لنا النجاة من خلال المغفرة.
المغفرة الالهية بارعة، لأنها ليست تمويهًا سطحيًا للخطية. لا يهز الرّبّ كتفيه غير مكترث قائلًا: "لا بأس". كلا! بل دفع ثمن غفراننا بدم ابنه (١كورنثوس ٦: ٢٠)، وتلك أعظم الهدايا التي وهبنا إياها (أفسس ٢: ٧، ٨).
إذا كنا لندرك عمق اهتمام الرّبّ بأمر التعامل مع الخطية، فعلينا التوقف وتأمل صليب يسوع المسيح.
الله القدوس والعادل ينفِّذ حكمه على الخطية في ابنه معبِّرًا عن عِظَم محبته للخطاة (رومية ٥: ٨).
هكذا هو الرّبّ، ولم يكن أبدًا غير ذلك. فإنه - بشهادته عن نفسه: "الرَّبُّ إلهٌ رحيمٌ ورَؤوفٌ، بَطيءُ الغَضَبِ وكثيرُ الإحسانِ والوَفاءِ. حافِظُ الإحسانِ إلَى أُلوفٍ. غافِرُ الإثمِ والمَعصيَةِ والخَطيَّةِ." (خروج ٣٤: ٦، ٧). الرّبّ قدوس وعادل، ولكنه لا يزال يقدم رحمةً وغفرانًا لا نظير لهما.
ولمن يقدم الرّبّ هذه العطايا التي لا تصدق؟ كما تُعبِّر كلمات الترنيمة القديمة "كل ما يطلبه من معايير هو شعورنا بالحاجة الماسة له."
هل تشعر باحتياجك اليه؟ إن هذا الشعور بالاحتياج هو ما سيجتذبك للمسيح لتنال الخلاص والتقديس. إنه هذا الشعور بالاحتياج هو ما سيقودك يوميًا للاحتماء في رحمته. وستجد نفسك أحيانا في الأعماق، تغرق في مصاعب الحياة وتجاربها. ولكن مجدًا للرّبّ "لأنَّ عِندَ الرَّبِّ الرَّحمَةَ وعِندَهُ فِدًى كثيرٌ" (مزمور ١٣٠: ٧).
هذا المقال مُقتبس عن عظة "تفسير مزمور ١٣٠– الجزء الأول" و"تفسير مزمور ١٣٠– الجزء الثاني" لأليستر بيج.
تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع موقع Truth For Life وضمن سلسلة من المقالات القيّمة التي ستقوم خدمة "الصورة" بنشرها باللغة العربية.
يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط: The Depths of Sin and the Hope of Forgiveness