هل حقًا اختار الله أناسًا للخلاص من قبل تأسيس العالم؟ هل هذه العقيدة موجودة في الكتاب المقدس أم أنها من اختراع بعض اللاهوتيين الذين ارتبط اسمهم بها؟ كلما ذُكِرَت تلك الكلمة يأتي إلى الذهن اسم جون كالفن مع أن لوثر قد تَكلَّم عن هذا الموضوع بشكل أكبر. في الحقيقة كل إقرارات الإيمان المصلحة في القرن السادس عشر قد أقرت بهذه العقيدة. وقبل كالفن ولوثر علَّم أغسطينوس نفس التعليم. لا يمكن تجاهل التعليم عن الاختيار أو التعيين السابق وهذا ببساطة لأن الكتاب المقدس يتكلم عن هذا الأمر. فالسؤال ليس هل هناك تعيين سابق أم لا ولكن السؤال هو ما هو المقصود بالتعيين السابق؟ التعيين السابق جزء من إعلان الله لنا في الكتاب المقدس وطالما الله أعلن فهو يريد أن نعرف ونعلم عن هذا الأمر.
تعريف بسيط
من أبرز الشواهد التي تُعبِّر عمَّا هو مقصود بالاختيار غير المشروط أفسس ١: ٤ـ٦ " كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ".
يجب الانتباه لما يقوله بولس هنا فيما يختص بهدف الاختيار. لقد اختارنا الله من قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه، ثم يمضي قدمًا ليقول إن الله سبق فعيننا أي سبق فحدد مصيرنا لنكون أبناء له وذلك من خلال يسوع المسيح. إن المصير المتعلق بالاختيار مثل التقديس أو التخصيص والتبني كلها بركات لكل المؤمنين الحقيقيين وليست لفئة خاصة من المؤمنين. يربط الرسول بولس بين الحياة الأبدية والتبني في رومية ٨: ١٣ -١٤ "لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ". لذلك يمكن تلخيص كلام الرسول بولس في أفسس ١: ٤-٦ في السطور التالية:
"قبل تأسيس العالم، اختار الله من سيكون له الحياة الأبدية حسب مسرَّة مشيئته، والهدف من هذا هو مَدح مجد نعمته دون وجود أي خصائص في هؤلاء المختارين تميِّزهم عن غيرهم. فجميعنا مُذنبين وجميعنا نستحق العقاب، ومنتهى العدالة هو أن نهلك جميعًا ولذلك الاختيار هو منتهى النعمة".
بناءً على هذا إذا كنت مؤمنا ولا شيء من الدينونة عليك فهذا تعبير عن نعمة الله ولا يرجع أي فضل إليك في هذا الاختيار الإلهي لك لتنال هذه النعمة.
مشروط أم غير مشروط
لماذا قد يختار الله البعض للخلاص؟ هل هناك شروط تؤهل البعض ليكونوا من المختارين؟ لا يمكن لمسيحي يؤمن بالكتاب المقدس رفض فكرة وجود الاختيار لأنها تأتي في العديد من النصوص الكتابية. ولكن الاختلاف كان دائما على سبب الاختيار أو شروط الاختيار. فنحن في أي نوع من الانتخابات نختار شخص معين بناء على مواصفات أو إمكانيات أو شروط تنطبق على هذا الشخص. هل هناك تأثير لحياتنا وقراراتنا على قرار الله بالتعيين السابق أو الاختيار؟ واضح من عدة نصوص أن اختيار الله حدث قبل تأسيس العالم وقبل أن نولد. وبالطبع يعرف الله عننا وعن حياتنا وعن قرارتنا كل شيء، فهل سبق التعيين متوقف على هذه المعرفة؟
لو كان سبب اختيار الله البعض للخلاص مرتبطًا بشيء يتعلق بهم، فهذا يجعل اختياره مشروطًا وهذا يتناقض مع الكتاب المقدس الذي يقول إن اختيار الله دائمًا مبني على رحمة الله وليس على أي شيء في الشخص أو في الشعب لأن من اختارهم الله كانوا يستحقون العكس تماما (تث ٧: ٧-٨). بل إن سفر التثنية (تث ٩: ٤-٧) يؤكد أنه بالرغم من معرفة الله لشر شعب إسرائيل وأنه صلب الرقبة إلا أنه اختارهم. فمعرفة الله لهم هنا كانت لتكون سببًا لعدم اختيار الله لهم لو كان اختيار الله مبني على معرفته السابقة بطاعة المختارين. بالرجوع لأفسس ١ نجد معيار اختيار الله للمؤمنين لا يتعلق بهم ولكن بمسرته هو. اختيار الله مبني على حريته هو ولا يتعلق بأي شيء خاص بالمختارين.
يعقوب وعيسو
من أهم الشواهد التي يمكن أن تلقي الضوء لسبب الاختيار هو رومية ٩: ١٠-١٣. تقول كلمة الله:
"وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ». لو افترضنا أن اختيار الله ليعقوب مبني على أي فضل في يعقوب أو على معرفة الله السابقة باستجابة أفضل من يعقوب فهذا يتناقض بشكل مباشر مع ما يقوله بولس في النص. يؤكد بولس أن الاختيار كان قرارًا حرًا تمامًا من قِبل الله بدليل أنه تم من قبل أن يولدا أو يفعلا خيرًا أو شرًا ولا يتعلق بأعمالهم. ما يؤكد هذا الكلام هو السؤال الذي توقعه بولس نفسه فقاله في العدد التالي (رومية ٩: ١٤): "فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا!" لو كانت سبب الاختيار هو معرفة الله السابقة بأي استجابة أفضل ليعقوب، كما يحاول البعض تبرير اختيار الله، فلماذا لم يرد بولس نفسه بهذه الإجابة؟ بل إن بولس أجاب في الاتجاه المعاكس تمامًا مؤكدًا على حرية الله التامة في الاختيار "لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: «إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ». فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ ِللهِ الَّذِي يَرْحَمُ. "
هل الاختيار عادل؟
تخيل أنك تعمل في شركة من عشرة أعوام وفجأة جاء شاب ليعمل في نفس الشركة ويأخذ نفس الراتب والامتيازات، أو أن أخيك يطلب ميراثه وبعد أن يبدده على الفجور والشر يعود مرة أخرى فيقبله أبوك مرة أخرى. هل تشعر بالعدل أمام هذه القصص؟ هذه هي القصص التي رواها المسيح في الأناجيل لتوبيخ المتدينين الذين يظنون أنهم مستحقين شيء ما أمام الله بسبب طاعتهم أو التزامهم (متى ٢٠؛ لوقا ١٥).
إن العدل لا يعني أننا جميعًا نأخذ نفس الشيء ولكن العدالة هي أن نأخذ ما نستحق. لكي نتكلم عن العدل وعما نستحق فكلنا نستحق شيء واحد وهو الموت. من منا لم يتعدى على ناموس الله؟ وكما يقول الرسول يعقوب: " لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ (يعقوب ٢: ١٠). لن يتمكن أحد في النهاية أن يقف أمام الله مُبديًا اعتراضًا على حكمه. من ناحية الاستحقاق، لا يوجد أحد يستحق أي شيء. المذهل هو أن يختار الله أن يخلص أي شخص من الأصل، وكونه يفعل هذا مع البعض لا يجعله موضع اتهام بل موضع شكر. المسيح نفسه في حياته على الأرض لم يشفي كل المرضى، هل يدعونا هذا لاتهامه بالظلم لأنه لم يشفي الجميع؟
بالإضافة إلى ذلك، فكرة وجوب ممارسة النعمة مع الجميع في حد ذاتها ضد معنى النعمة أو الرحمة. الرحمة في تعريفها حرة. واضح أن الله لم يعطي الرحمة للجميع لأننا نعرف أنه في النهاية لن يخلص الجميع. وإن قرر الله أن يهلك الجميع لما كان ظلم أحدًا. الجميع يستحق ذلك.
التعيين السابق محفز أم محبط
هل هذا التعليم يدعو للإحباط أو للتشجيع؟ لماذا حرص الله أن يحتوي إعلانه لنا هذا التعليم؟ سأعرض بعض الأسباب:
- بناء على هذه العقيدة لا يمكن لأحد أن يقول لله أنه هناك أسباب تجعله ليس من المختارين، فسبب الاختيار لا علاقة له بالإنسان. سبب الاختيار يرجع إلى الله نفسه. لهذا فهذا التعليم مشجع جدًا على الكرازة لأنه مهما كان الإنسان بعيدًا أو شريرًا أو رافضًا لله، فقبوله لدعوة الإنجيل لا يتوقف على شيء فيه وإنما على عمل الله فيه مستخدمًا كرازتنا.
- الأمر الآخر هذا التعليم مشجع جدًا للمؤمنين. نحن موضوع محبته من قبل تأسيس العالم. نظرته لنا أعظم وأثمن مما نتخيلها. نحن خاصته التي أحبها إلى المنتهى (يوحنا ١٣: ١).
- إن عقيدة الاختيار تُعظِّم وتُمجِّد نعمة الله. قال أحدهم مرة بعدما سمع هذا التعليم: لو الأمر كذلك، إذن فالنعمة أعظم بكثير مما تخيلت.
- اختيار الله ووعوده بلا ندامة ولا رجعة. الله اختارني وهو عارف شرّي وإنه من ذاتي لن اختاره، وقد فعل ذلك بلا شروط أو أي امتيازات أو إمكانيات في. هذا يعني بالضرورة أنه سيُكمِّل معي. فهو يعمل كل شيء بحسب مسرة مشيئته (أف ١: ١١).