«تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ...، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ.»
(متّى ١١: ٢٨- ٣٠)
«الحَيَاةُ ألَمٌ جَلالتُكِ، ومَن يقول لكِ شيئًا آخرًا يحاول أن يبيعك شيئًا ما!»
تُذكِّرنا هذه الكلمات الساخِرة المُبالِغة لويليام جولدمان William Goldman من فيلم "الأميرة العروس" The Princess Bride بحقيقة ألم الحياة بتنوع ألوانه الداكِنة. فالحياة التي تبتسم تارةً في وجه الإنسان، لترفعه في فرحٍ غامرٍ ليمسك بالسحاب، هي ذاتها التي تتشح بالسواد في مواسم تقلُّبها المفاجيء على الإنسان، لتُسكِره وتكسِره بألمٍ مُباغتٍ يهوي به إلى أعماق الحيرة والغموض، الذي يزيد جُرح الحياة إيلامًا!
لكنَّ الخبر السار الذي نحمله في قلوبنا، ونعلنه بأفواهنا يتضمن أن الله الذي أعلن ذاته في ابنه يسوع المسيح، لم يكن ليُخفي عنا هذه الحقيقة ليبيع لنا شيئًا ما، أو قُل وهمًا ما! فهو من جاء لكي «... يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ.» (متّى ١: ٢١) وفي تدشينه لملكوت السموات "وَكَانَ يَطُوفُ كُلَّ ٱلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ." (متّى ٤: ٢٣؛ ٩: ٣٥). وإجمالًا، هو مَن شخَّصَ الداء، ووصف ومنح الدواء، أو بالأحرى منح الحياة لموتى الذنوب والخطايا، وكل ممات وألم ارتبط بدخول الخطية عالمنا الساقط، مُصالِحًا مُختاري الله بصليبه، قاتِلًا به العداوة، ليُقيمنا معه، نجلس ونأكل ونشرب على مائدته، كأبناء وورثة "... قُدُومًا فِي رُوحٍ وَٱحِدٍ إِلَى ٱلْآبِ." في انتظار الابن الآتي من السماء "... لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ." (أفسس ١: ١- ٩؛ ٢: ١١- ٢٢؛ ١تسالونيكي ١: ١٠؛ ٢تسالونيكي ١: ١٠)
وفي مُصارعتنا مع آلام الحياة، نتَفَهَّم كيف اتّخذت كلمات الرّب المُعزية Comfortable Words: " تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ." (متّى ١١: ٢٨) مركز الصدارة من حيث شيوع الاستخدام باعتبارها إحدى أكثر وعود الرب يسوع المسيح دفئًا وتعزيةً للأنفُس المُتعَبة، ما يُفسر إلى حد كبير اقتباسها في نصوص العديد من العظات، وليتورچيات خدمة الشركة في عصر الإصلاح، بدايةً من أولريتش زڤينجلي Ulrich Zwingli منذ عام ١٥٢٣م.
لكن، وكما هو الحال مع الأقوال المأثورة، فنادرًا ما يُمعِنُ مُرددها النظر في السياق والمناسبة التي قيلت فيها أولًا، الأمر الذي يفقدها الكثير من روعتها، ويفتح المجال لاجتزائها، ويجعلها عُرضةً لإساءةِ الفهمِ، وبالتالي إساءة الاستخدام.
وهذا المقال – المُختصر- هو محاولة متواضعة لفهم دعوة المسيح (متّى ١١: ٢٨- ٣٠) في سياق رواية متّى لحياة وخدمة ملكوت الرب يسوع المسيح، ومن ثم اتخاذ قرارنا الصحيح بالاستجابة لهذه الدعوة كما قصدها الروح القدس. وبعد إعطاء السياق حقَّه، نغوص قليلًا في أعماق النص نفسه، سعيًا للإجابة على الأسئلة المفتاحية لتفسير معناه بأقل قدر ممكن من الافتراضات والأفكار المُسبقة خارج رواية البشير متى نفسه.
فالمقال إذًا مُقسَّم لثلاثة أقسام: السياق، تحليل النص، والانتهاء بخلاصة لا تخلو من التطبيقات الروحية العملية عن التلمذة وحمل النير.
أولًا: السياق
أ- رُسل الملك الراعي وإخوته الأصاغر
قبل خمسة إصحاحات على إرسالية التلاميذ الأولى، قدّم متّى خُلاصة أوَّليَّة بليغة لوجهي خدمة المسيح في الجليل في (متّى ٤: ٢٣): التعليم والكرازة ببشارة الملكوت (متّى ٥- ٧)، وشفاء المرضى والتحرير (متّى ٨، ٩). وعاد البشير وختم الجولة الأولى لخدمة الملكوت بتكرار نفس الآية كما هي، ولكن في نهاية الأصحاح التاسع (راجع متّى ٩: ٣٥)، في إطار متاوي Matthean Sandwich [في إطار لاهوت متّى]. مؤكدًا بذلك على ارتباط التعليم الأخلاقي في عظة الجبل بخدمة شفاء المرضى وطرد الشياطين، واللذين شكّلا وجهي العُملة لعمل ابن الإنسان في مجيئه. فهو وحده من له السلطان أن يُعلن غفران الخطايا ويُبرهن على ذلك عمليًا في شفاء المرضى وتحرير المقيدين (متّى ٩: ٦؛ ٨: ١٧.. راجع متّى ١: ٢١).
والآن، حان الوقت لكي يُرسل الملك الراعي تلاميذه للغنم المنزعجين والمنطرحين بلا راعٍ، فالحصاد كثير والفعلة قليلون ورب الحصاد يطلب خراف بيت إسرائيل الضالة التي بددها رعاة إسرائيل (حزقيال ٣٤). إذًا، متّى ١٠: ٣٦- ٣٨ هي فقرة انتقالية بامتياز، هدفها إرشاد القارئ ليرى إرسالية التلاميذ كامتداد لإرسالية الرب يسوع نفسه من الآب.
- هذا الامتداد وتلك الاستمرارية يتخطيان التشابُه اللفظي -الذي يصل حد التطابق أحيانًا- إلى وحدة موضوعية لامتداد وجهي خدمة الملك: «ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ. ٱشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتـُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا.» (متّى ١٠: ٧ مع ٤: ١٧...ثم متّى ٤: ٢٣؛ ٩: ٣٥ مع١٠: ٨).
- الروح القدس المتكلم برسالة الإنجيل عبر التلاميذ، هو ذاته روح الله الذي استقر على الابن البكر والوحيد أولًا في معمودية يوحنا: أنت ابني الحبيب الذي به سررت، والآن بتعبير الرب يسوع، مخاطبًا إخوته الأصاغر الاثني عشر، «... رُوحُ أَبِيكُمُ...» (متّى ٣: ١٧ مع ١٠: ١٩، ٢٠).
- من يقبل السيد؛ موضوع مسرة الآب السماوي، يقبل إخوته. فهو من علَّمهم أن يصلوا لله قائلين «آبانا»، باعتبارهم «هؤلاء الصِغَار»، «الأطفال» أو «إخوته الأصَاغِر» وأخيرًا «إخوتي» (متّى ٦: ٩؛ ١٠: ٤٢؛ ١١: ٢٥؛ ١٢: ٦٤- ٥٠؛ ١٨: ١٠؛ ٢٥ :٤٠، ٤٥؛ ٢٨: ١٠).
خُلاصة مبدئيّة
بمتابعة قراءتنا لإنجيل متّى حتى الآن، يتجلى أمام أعيننا تغلغل مفردات الأبوة والبنوة في نسيج بشارة متّى بشكل لا يغفله عاقل. في عظة الجبل (متّى٥- ٧)، تتخذ صلاة «الآبانا» موضعها بامتياز في قلب التعليم عن الصلاة (متّى ٦: ٩- ١٥)، حتى أن الأصحاح كله يذخَر بتعبيرات مثل «أبوكم السماويّ» بتنويعاتها. ولِمَ لا؟ ففي عبارة واحدة تسبق نفس الأصحاح: أصحاح البر العمليّ(١) لخَّص المُعلم مِعيَار تحقيق الناموس والأنبياء في حياة التلاميذ، شعب العهد الجديد، باعتبار كون التلاميذ أبناء الآب الذي في السموات «فَكُونـُوا أَنـْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ.» (متّى ٥: ٤٨). في عبارة واحدة أقول: تلمذة الاثني عشر (ومن يتبعهم) هي إتيان الابن البكر بأبناء كثيرين للآب (تبني!) تزداد توهجًا قُرب الصليب والقيامة... «... اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي.» (متّى ٢٨: ١٠).
ب- الصوت الصارخ مسجون... مُدن إسرائيل لم تَتُب... وَٱلْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا!
يُفتَتَحُ الأصحاح الحادي عشر بتعبير مفصليّ، استخدمه البشير خمس مرات ليلخِّص ما فات، ويبدأ فصلًا جديدًا: «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ...» (راجع متّى ٢٨:٧؛ ١:١١؛ ٥٣:١١؛ ١:١٩؛ ١:٢٦).(٢) Καὶ ἐγένετο ὅτε ἐτέλεσεν ὁ Ἰησοῦς. فالقارىء إذًا يترقّب ثمار امتداد خدمة إنجيل ملكوت السماوات في إرسالية الاثني عشر. لنرى ونسمع.
١- «... أَنـْتَ هُوَ ٱلْآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (متّى ١١: ٣)
وبينما ننتظر نتائج الإرسالية، التي تضمن خطاب تكليفها ذاته توقعات بانقسام حاد في إسرائيل، التي ينتظر العديد من مدنها مصير أسوأ من مصير سدوم وعمورة لرفضها رسالة الملك (راجع متّى ١٠: ١١- ٤٢)، يدعونا متّى للاستماع لصَوْتِ صَارِخٍ كان طليقًا في برية اليهودية، مُحذِرًا الفريسيين والصدوقيين من الغضب الآتي، لكنه الآن في قلب السجن، فيما يستمر أولاد الأفاعي في تضليل الشعب! فيوحنا المعمدان الذي أدرك أولًا هُويّة المُعَمِّد بالروح القدسِ ونارٍ، وسمع شهادة الآب، ورأي حلول الروح في نهر الأردن (متّى ٣: ١٦، ١٧)(٣)، في حيرة من أمره لا يعرف لِمَ تأخرت الدينونة، ولم يقبع هو في السجن، ولا سيما حين سمع في السجن بأعمال المسيح. رد الرب يسوع على يوحنا يضمن التأكيد الضمني على هُويته مشيرًا لأعمال المسيا المنتظر حسب نبوة إشعياء (إشعياء ٢٩: ١٨؛ ٣٥: ٤- ٦)، مُطوِّبًا من لا يعثُر فيه لتأخر الدينونة (متّى ١١: ٤- ٦). أقول تأخر الدينونة فقط، و إلى حين! إذ أن الرب نفسه وفي الأعداد من ٢٠- ٢٤ تحدث بالويلات الوشيكة على المدن التي لم تَتُب. «فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ:...» (متّى ١١: ٢٥- ٣٠)
٢- في هذا السياق مباشرة بعد الويلات على المدن التي لم تستجب بالتوبة والإيمان، رغم كونها أكثر مدن شهدت معجزات (متّى ١١: ٢١- ٢٣) كمثالٍ لرفضِ الجيل المعاصر من شعب إسرائيل تحت تأثير قيادته الدينية التي تُدير العُنف ضد ملكوت السماوات، ساعية لاختطافه من أيام يوحنا المعمدان، والآن تدير شرها للملك عينه (متّى ١١: ١٢). لكن هل حقًا نجحت قوى الشر؟ أم أن لسلطان الله الكلمة الأولى والأخيرة؟
٣- ينتقل البشير متى من حديث الويلات على المدن، إلى تسبيحة حمد، يقدمها الرب يسوع بمسرة للآب رب السماء والأرض في (متّى ١١: ٢٥- ٢٧) فيها يُجيب على تساؤلات القارئ. موضع التسبيحة له وجهان: أولهما: سُلطان الآب في إخفاء المعرفة الروحيّة لحقيقة خدمة يوحنا المعمدان والرب يسوع عن الحكماء والفهماء في أعين أنفسهم، وهو ما أشار إليه ضمنًا وسخريةً في حديثه عن كفر ناحوم «...الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ!...» (ع٢٣). وثانيهما: سلطان الآب في الإعلان والكشف للأطفال، ولعل ذلك ما يفسر تعليمه للتلاميذ لاحقًا عن الأعظم في ملكوت السماوات باعتباره طفلًا، قائلًا: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلْأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ.» (متّى ١٨: ١- ٥). لكن سلطان الإعلان والإخفاء ذاته قد دُفع للابن (ع٢٧)، فإن كان الآب وحده يعرف الابن والابن وحده يعرف الآب، فللابن ذات السلطان أن يعلن الآب. أليس هذا ما قاله الابن لبطرس حين أدرك هُويته؟ «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ.» (متّى ١٦: ١٧).
في هذا السياق، وهنا تحديدًا يقدم الرب يسوع نفسه كالمُخلص والمُريح، داعيًا لحمل النير الهين والحمل الخفيف. لكن، إلى من يوجه دعوته في الأساس؟ وما هو مضمون الدعوة ذاتها؟
(١) القراءة الأصوب لكلمة «صدقتكم» في أولي آيات الأصحاح السادس، لا تعني عطاءكم المادي. يقول الرب: «احترزوا من أن تصنعوا بركم.... your righteousness δικαιοσύνην ὑμῶν/ قدام الناس لينظروكم، وإلا فليس لكم أجرعند أبيكم الذي في السماوات» (مت١:٦).
(٢) Peter G. Bolt, Matthew: A Great Light Dawns (Sydney: Aquila Press, 2014), 110.
(٣) متّى وحده يسجل تردد يوحنا أولًا أن يعمد المسيح بالماء ورد المسيح عليه. ومتميزًا عن مرقس ولوقا، يوضح كيف يتحدث صوت الآب من السماء عن الابن، لا إلى الابن (قارن متّى ٣: ١٧مع مرقس ١: ١١، لوقا ٣: ٢٢).