ثانيًا: التفسير؛ لمن الدعوة، وما هو مضمونها؟
١- من هم المدعوون الذين يخاطبهم الرب في متّى ١١: ٢٨- ٣٠ هل هم التلاميذ، الجموع، أم كليهما؟
هناك احتمالان، أولهما: الخطأة المُثقلين بحمل الذنوب، والذين يحتاجون إلى القبول والمغفرة. وثانيهما: التلاميذ، المدعوون لحمل نير المعلم واختبار الراحة والسلام في وجه اضطهاد الغاصبين، مُختطفي الملكوت، ومشقة حمل الصليب، ورفض القيادات الدينية التي ستسلمهم أمام ولاة وملوك، مُبغَضين من أجل الرب (راجع متّى ١٠: ١٦- ٣٤؛ ١٢:١١).
ولربما يتمنى القارئ لو أخبرنا متّى حصريًا عن هوية المستمعين: سواء ما إذا كانوا: التلاميذ أو الجموع (أو كلاهما، كما في الإصحاحات ٥- ٧؛ ١٣؛ ٢٣). لكن الدليل المتراكم من السياق يشير إلى أولوية التلاميذ، دون إقصاء للجموع.(١)
مع ذلك، تظل للأولوية أهمية في إدراك أبعاد حياة التلمذة والتبعية، كما سنرى في التطبيقات الختامية.
أ- من غير المقنع في هذا السياق، وبعد إرسالية الاثني عشر وما تعرضوا له من رفض في الأصحاح العاشر والحادي عشر، أن يكون الجموع هم "... ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ..." (متّى ١١: ٢٨). يدلل Graham N. Stanton على ذلك في ضوء استخدام اسم الفاعل المضارع Present Participle لوصف ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، والذي يُرجح كفة التلاميذ في عودتهم مثقلين بعد إرسالية قوبلت بالرفض في مُجملها.
ب- بالإضافة إلى ذلك، إذا اعتبرنا الدعوة موجهة للجموع في المقام الأول، فالانتقال من الأعداد : ٢٥- ٢٧ وموضوعها إعلان الآب والابن للـ «الأطفال» (التعبير المجازي المعتاد للأطفال)، إلى الدعوة لحمل النير والتعلم من الملك المعلم الوديع ومتواضع القلب في ع٢٨- ٣٠، يصير انتقال مُصطنع، وقراءة غير سلسة.(٢)
ج- أيضًا، تتوازى دعوة الرب يسوع "... اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ...، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ." (متّى ١١: ٢٨- ٣٠) بوضوح مع حمل الصليب في سياق الإرساليَّة الأولي لمدن بيت إسرائيل الضالة. لاحظ الجدول أدناه، والوحدة الموضوعية، فالتناقض الظاهري في كل نص: من يحمل الصليب (الموت)، يجد الحياة في العمود الأيمن، في مقابل حمل النير الذي يجلب الراحة للنفوس...كيف يمكن إغفال ذلك؟
"مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي." (متّى ١٠: ٣٧- ٤٠)
"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلْأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ.لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ". (متّى ١١: ٢٨- ٣٠)
د- أخيرًا، المتابع الجيد للسرد المتاوي، ولا سيما أمثال ملكوت السماوات، يدرك تمامًا أن التلاميذ فقطّ وحصريًا، هم من أُعطِىَّ لهم أن يعرفوا أسرار الملكوت. بينما يستمع الجموع لأمثال المسيح كألغاز لا يدرك أي من التابعين غير المكترثين مغزاها، بينهم يستفسر عن مغزاها التلاميذ، ومن يسير على خطاهم. وأزيدكم من الشعر بيتًا، فإن أمثال الملكوت في الأصحاح ١٣ هي في جانب كبير منها توصيف لردود الأفعال المختلفة، والتي في أغلبها رافضة للملكوت. ومزيد من حجب نور الإعلان عن القيادات الدينية والجموع التي تبعتها، بعدما ارتكبت الجموع في هذا الجيل بمجمله خطية التجديف على الروح القدس (رفض التوبة والإيمان بأعمال المسيح للنهاية، بل ونسبتها لرئيس الشياطين ذاته، وهو ما فعلوه بيوحنا المعمدان قبلًا...قائلين عن يوحنا المعمدان: «شيطان»! (راجع متّى١٢: ٢٤- ٣٢ مع متّى ١١: ١٨). لذلك، يكمل الابن عمله مع الآب في إخفاء هذه عن الحكماء: «مِنْ أَجْلِ هَذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لأَنـَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ» (متّى ١٣: ١٣). بكلمات أخرى، العد التنازلي للزمن بدأ، وصوت صراخ الغوغاء: «دمه علينا وعلى أولادنا»، مسموعًا عن بعدٍ! ليجلب هذا الجيل الفاسق الشرير اللعنة على نفسه (متّى ٢٧: ٢٥). فبمن يُشبَّه؟
والآن، نحن على وشك فهم مغزى محتوى الدعوة، والذي يتحدى نظرتنا للراحة تمامًا.
٢- نصّ دعوة المسيح ومغزاه: بأي معنى يصف يسوع المسيح نيره بالهين وحمله بالخفيف؟
في ضوء ما سبق، تتكشف لدينا الآن الكيفية التي تتدرج فيها أفكار المسيح. فكلًا من التعبيرين «حمل النير» و«التعلم»، يشيران إلى مفهوم التلمذة، فالتلميذ يحمل نير تتبع المُعلم، بشكل يتخطى الالتزام بالتعليمات إلى التشكيل الداخلي الذي يبدأ من القلب. أن يدعو الابن المحبوب أبناءً للآب السماوي، لهو أمر يتمركز حول تغيير في الهوية، فالتلاميذ أبناء متعلِّمون من الأخ الأكبر. ذلك التعليم الذي يجد معنى ومغزى تعاليم وانتظار الناموس والأنبياء في شخص الرب يسوع نفسه، والذي في تبعيته يجد التلميذ هوية جديدة (ابن)، واهتمامات تفوق كل ما يطلبه العالم إلى طلب ملكوت الله وبره الذي يحضره الملك الوديع (متّى ٥: ١٧- ١٩؛ ٢٤: ٣٥).
وبرغم التناقض الظاهري بين فكرة الراحة، والتي غالبًا ما ترتبط في أذهاننا بالراحة السلبيّة والتخلص من الأحمال، وبين حمل النير، وهو أداة كانت توضع على ظهر الحيوان الذي يحرث الأرض، إلا أن المسيح استعمل مفهوم الراحة الكتابية التي ذكرناها للتو...راحة العتق من عبودية الخطية بكل تأكيد، لكنها ليست راحة الكسالى الذين ينشدون الاسترخاء وينعمون باللامبالاة... بمعنى آخر، هي راحة نشطة وعاملة...راحة تتحقق أولًا بخلع نير ثقيل ومُستعبِد، وحمل نير آخر خفيف وهين.
لكن. إلام يشير كل نير، ومع من يقارن الرب يسوع نفسه في هذا النص؟
نير الرب يسوع في مقابل نير الكتبة والفريسيين رِجَال الشريعة...فيما يختلفان؟
في الأصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متّى، "خَاطَبَ يَسُوعُ ٱلْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ قَائِلاً..." عن الكتبة والفريسيين في تعليمهم للشريعة: "فَإِنـَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالًا ثَقِيلَةً عَسِرَةَ ٱلْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ ٱلنَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ" (متّى ٢٣: ٤). هذا التناقض مع نيره الهين يحتمل تفسيرين منتشرين في الفكر الكنسيّ.
أولهما: أن المسيح شخص مرن غير متزمت، وصاياه أسهل من وصايا الكتبة والفريسيين الأكثر تدقيقًا من الرب يسوع، الذي يهتم بما يريح نفوس التلاميذ، حتى لو تضمن هذا التغاضي عن وصايا الشريعة.
ثانيهما: سر سهولة حمل النير هو شخص المعلم نفسه، هو تغيير الهُوية الذي تحدثنا عنه لصيرورتنا أبناءً نشتهي أن نفعل مشيئة الآب.
قبل التصريح بالإجابة، أود أن أشير إلى بعض الحقائق:
- دعوة الرب للتلاميذ هي دعوة تتضمن برًا (عمليًا) ينبع من القلب، ويسمو من حيث النوعية، على بر الكتبة والفريسيين. وإن أخفق التلاميذ، فالخسارة هي خسارة لعضوية الملكوت، ولا شيء أقل من ذلك (متّى ٥: ٢٠)!
- عندما شرع المسيح في تفسير الآية: «فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنـَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّماوَاتِ.» (متّى ٥: ٢٠)، استمر في شرح الاختلاف النوعي في الفقرات الشهيرة بـ «سمعتم أنه قيل ... أما أنا فأقول.» وكان دائمًا تعليم المسيح هو الأصعب والأكثر كشفًا لفساد القلب ورغباته، إلى الحد الذي فيه نادى تلاميذه بتتبع شاق لدوافع الخطية لتغييرها من المنبع. نعم. في نظر المُعلم، أن تخسر أحد أعضاءك أهون من أن يُلقى جسدك كله في النار بسبب الزنا، كمثال، ولا ننسي أنه لا يزال يخاطب التلاميذ (متّى ٥: ٢٧- ٣٠). فهل يبدو ذلك كنير هين في نظرك؟ هل هذه معايير أدنى؟
- في الجانب الآخر، أوضح المُعلم أن بر الكتبة والفريسيين ينشغل بتفاصيل لا نهائية عن وصايا كتعشير النعنع والشبث والكمون، مع ترك أثقل وأهم وصايا الشريعة: الحق والرحمة والإيمان، والتي من شأنها أن تُظهر عجز وفساد الإنسان. تنقية خارج الكأس عملية تضليل مُمنهجة، يُلهي فيها المُعلمون الكذبة تلاميذهم المنبهرين باستعراض بهلواني في التحايل لإخفاء رائحة الموت التي تفوح من قبور موتى السلب والدعارة (متّى ٢٣: ٢٣- ٢٥). هل يبدو تعشير الكمون لك أيسر من الحق والرحمة والإيمان، التي قد تدفع حياتك ثمنًا لها؟
الآن يمكن تلخيص الفارق الجوهري بين النيرين كما يلي:
- نير الكتبة والفريسيين. لم يحرر قادة الكتبة والفريسيين الشعب المستعبد تحت ثقل الخطية من حمله، بل أضافوا على حمله أحمالًا ثقيلة، هي أعمال التدين والتدريبات الروحية من أصوام وصلوات ونظم معقدة ودقيقة لتنفيذ وصايا الناموس... والنتيجة حسب تعبير المسيح يسوع في (متّى ١٣:٢٣): «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ، لأَنـَّكُمْ تـُغـْلِقُونَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنـْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ ٱلدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!» (قارن مع متّى ١٦: ١٦- ١٩)
- نير المعلم الوديع والمتواضع القلب. أتمَّ الرب الناموس بالكامل، ولاسيما نيرنا الثقيل الذي لا يمكن تصوّره ولا يطاق من دينونة الخطيئة وخزيها، فأثقل الناموس: العدل والرحمة والأمانة عاشها، وتحققت في حياته ومماته وقيامته. وفي تبعيتنا له وتمثلنا به قد نعثر، نفشل، نتراجع، نفتر. لكن، لكونه الوديع والمتواضع القلب يقبلنا، يرفعنا. نأتيه مُنكسري الروح من مرارة الفشل أو قسوة الاضطهاد وجفاء الأقرباء الرافضين لملك الله وبره، فنسمع التطويب لمنكسري القلب والحزانى...وللمطرودين من أجل بر الملكوت (متّى ٥: ٢- ١٢). نتبعه واثقين في المحبة التي تتأني وتبني وترفق، في الغفران والقبول غير المبني على روعة الآداء من جانبنا.... وقتها يلذ لنا أكثر فأكثر أن نتبعه، فروعة شخصه الوديع والمتواضع القلب تجلب الراحة في عمق الألم وقسوة الاضطهاد.
في جملة واحدة، حل التناقض الظاهري في عبارة نير هين وحمل خفيف، كما شرحه الرب، هو ببساطة شخص المعلم نفسه، الذي يُعَلِّمنا ويُمَكِننا أن نشتهي ونفعل مشيئة الآب، فتلك شهوة قلبه هو أوًلا، شهوة أرادها ونفذها.
نيره هين وحمله خفيف لأن، بحسب الرسول بولس، الله أبوه السماويّ هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل لأجل المسرة (فيلبي ٢: ١٢، ١٣). وكما يقدم لنا الرسول يوحنا سلسلة متصلة أشد الاتصال من الحقائق الروحية في (١يوحنا ٥: ٢- ٤): فمحبة الله هي عمليًا حفظ وصاياه، ووصاياه ليست ثقيلة لأننا مولودين من الله ونغلب العالم، وغلبتنا هي الإيمان والثقة التي بها نتبع المُخلص والمعلم الوديع ومتواضع القلب. هذا هو الطريق الذي رسمه الرب يسوع لنجد راحة لنفوسنا...ودونه التيه والضلال!
ثالثًا: التطبيقات الروحيَّة العَمَلِيَّة
- التلمذة ليست مجموعة من المعارف اللاهوتيّة، أو التدريبات الروحيّة التي يتقنها الإنسان بتكرار الممارسة، ولاسيما التي يخترقها فكر وفلسفات روحانيّة تعزز الفردانيّة وطلب الراحة النفسيّة كأسمى هدف، فالتسمية اللائقة بذلك هي عبادة السلام الداخليّ، كبُعد من أبعاد عبادة الذات. حذَّرنا الرب: مَن يجد حياته يضيعها. لكن التلمذة في المقام الأول بنوة للآب أنجزها الابن فينا بقوة الروح القدس(٣). نتجاوب نحن معها، فتُعلِن عن نفسها في قلب جديد وذهن جديد، له رغبات وفكر يشتاق أن يمجد الله، ويختبر سلامًا وراحةً نفسيّة، مصدرها الانسجام مع أهداف ومقاصد الله ورغبته في تمجيده، نختبرها وأعيننا مثبَّتة عليه، تتأمله هو لا ذاتها، فالنفس الإنسانية الساقطة بارعة في الالتفاف حول الذات، لا يمكن الثقة فيها، والانصات لصوتك الداخلي سيضللك...«اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْئٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟ أَنَا ٱلرَّبُّ فَاحِصُ ٱلْقَلْبِ مُخْتَبِرُ ٱلْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَٱحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ.» (إرميا ١٧: ٩، ١٠). فقط استمع إلى المُعلم وليكن له قلبه الوديع، لتتحرر من سجن الذات، وتعرف ما يريدك أن تعرفه عنه، وعن حياتك: معناها ومغزاها. فتجد الراحة في نفسك.
- لن نجد الراحة لنفوسنا ونحن نسعى لتحقيق النمو الروحيّ الموغل في الفردانيّة Individualism مهما بدت العقيدة اللاهوتيّة مستقيمة. يكفي أن نبتلع طُعم الفصل بين التعلم ومشابهة صورة الابن البكر في حياة العبادة، وبين الشهادة بالإنجيل لمجد الله وتلمذة الأمم حتى يضربنا الجفاف، وترعشنا برودة الموت البطيء. ربما يفسر ذلك اهتمام كاتب المقال بسياق النص الذي احتل جزءًا كبيرًا من محتواه؛ سياق الإرساليّة التي تواجه المقاومة من كل جهة. فلم يعدنا الرب بسلام مصدره النجاح في اجتذاب الجماهير Popularity، بل سلام مصدره تبعية أمينة لمعلم اصطدم بقيادات عصره الدينية، لكنه في حسم ظل وديعًا ومتواضع القلب. ليتنا نتشبه به في استمرارية لإرساليته هو.
- ختامًا، عزيزي القارئ، ربما سمعت مثلي قبلًا الكثير من العظات ذات «الطابع التبشيري» في تناولها لهذه الدعوة الشهيرة: «وأنا أريحكم» يُقتطع فيها العددان ٢٩، ٣٠ أو يُهمشا تمامًا. ليتحول المسيح في أذهان المستمعين لذلك الطبيب الذي نأتي إليه ليحمل عنا أثقالنا حتى يمضي كل منا بعدها في طريقه التي أتى منها ليُكمل نفس نمط حياته الذي قاده لحياة يئن فيها تحت ثقل خطيته ونتائجها. فلا حديث عن تلمذة ولا حمل نير كنتيجة حتمية للمجيء للمسيح المخلص الذي يغير– إن كنا حقًا أتينا إليه صادقين التوبة – مفاهيمنا وأولوياتنا، بل ومركز حياتنا نفسه يصبح شخص الملك وبِرّه. فهل نستفيق من هذا الفخ، لنعيش لمن مات لأجلنا؟ «... وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلْأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنـْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ.» (٢كورنثوس٥: ١٥).
(١) عدد ليس بقليل من دارسي وعلماء الإنجيل بحسب متى يسمي هذه الاحتمالية بـ «جمهور متى المزدوج» Matthew’s double audience. فبينما يخاطب الرب تلاميذه باعتبارهم الدائرة الأقرب إليه في عدة فقرات، يستمع الجموع إلى التعليم، وكأنه يدعوهم للانضمام لحياة التلمذة. أوضح مثال على ذلك هو جمهور الموعظة على الجبل: في بداية الأصحاح الخامس فتح المسيح فاه ليعلم التلاميذ، حين رأي الجموع. ولما أكمل يسوع أقواله، بهتت الجموع، وبدأت في تبعيته (متّى ٧: ٢٨؛ ٨: ١). أيضًا، نص المأمورية العظمى في متّى ٢٨: ١٨- ٢٠، يدعونا للنظر لجميع الأمم على أنها الدائرة الكبرى على الإطلاق.
(٢) Graham Stanton, A Gospel for a New People: Studies in Matthew (Louisville: Westminster John Knox Press, 1993), 373-374.
(٣) Jeffrey A. Gibbs, Matthew 11:2-20:34, Concordia Commentary: A Theological Exposition of Sacred Scripture (St. Louis: Concordia Publishing House, 2010), 592.