حقائق خالدة لعالم متغيِّر: الاستفادة الثلاثية من ناموس الرب

كل الكتاب المُقدَّس هو كلمة الله وذو صلة ومعنى لكل الحياة المسيحية. بحسب ٢تيموثاوس ٣: ١٦: "كُلُّ الكِتابِ هو موحًى بهِ مِنَ اللهِ، ونافِعٌ للتَّعليمِ والتَّوْبيخِ، للتَّقويمِ والتّأديبِ الّذي في البِرِّ." وللتأكيد، تشمل عبارة " كُلُّ الكِتابِ" مواقع سرد الأنساب، وتعدادات الشعب، والقوانين الطقسية التي تبدو غامضة لنا.

لكن كثيرًا ما نتحيَّر قليلًا في أمر شريعة العهد القديم - حتى في كيفية انطباق مقاطع عامة مثل الوصايا العشر- على مؤمني العهد الجديد. سُطِر مُجلَّد بعد مُجلَّد عن علاقة المؤمن بناموس العهد القديم، وليس هنا موضع هذه المناقشة المُعقَّدة. على أنه يجدر هنا ذِكر تبني العديد من المصلحين واللاهوتيين الذين ساروا في هذا النهج استفادة ثلاثية الأوجه للناموس. وفحص هذه الاستفادة الثلاثية لن يجيب عن كل أسئلتنا، لكن فيما نتأمل كل استخدام على الترتيب، نبدأ في إدراك كيف تنطبق شريعة الله على عالمنا وحياتنا اليوم

١- الاستخدام المدني أو السياسي:

أولًا، ناموس الله موجود في المجال المدنيّ لحظر الأفعال المُسيئة ولتعزيز العيش بأسلوب صحيح. المنظومة القانونية لكل من الولايات المتحدة وانجلترا تبدأ بقناعة مفادها وجود مفهوم أسمى للصواب (القانون الطبيعي) له يخضع جميع الناس بلا استثناء.

قد تفوتنا حقيقة تأسُّس الهيكلية الداعمة للقوانين الغربية وأخلاقياته على الناموس الكتابي إذا تأملنا حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، أو النزاع الذي تلى قضية (أوبرجيفيل Obergefell)، أو الفراغ الفلسفي والروحي الذي تبع الجائحة. فلنأخذ على سبيل المثال، تشريعًا فاصلًا مثل (قضية Roe v. Wade)، حيث تخطّت المحكمة الدستورية العليا للولايات المتحدة سلطاتها الشرعية. لو اعتمدت المحكمة في مرجعية قرارها على أساس قوانين الله الأخلاقية، لكانت اُضطرت للإقرار بأولوية الوصية السادسة، المُحرِّمة للقتل، على حق أي امرأة في شأن حريتها الجنسية وولايتها على جسدها. لكن المحكمة العليا في البلاد أذعنت للمنفعة الاجتماعية، ونأت بنفسها عن المعايير الإلهية المطلقة.

كمؤمنين، نحن ملتزمون بكلمة الله في مجملها. كما قال لنا يسوع: "فإنّي الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إلَى أنْ تزولَ السماءُ والأرضُ لا يَزولُ حَرفٌ واحِدٌ أو نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَ النّاموسِ حتَّى يكونَ الكُلُّ" (متّى ٥: ١٨). ولكن في عصرنا هذا، مَن ذا الذي يبغي الرجوع إلى ما يُطلق عليه "العبودية" للأخلاقيات الكتابية؟ يزعم الكثيرون قِدَم المعايير الكتابية وتقييدها للحريات وعدم ملاءمتها للحياة المتمدنة.  يكتب (دونالد ماكليود Donald Macleod): "يميل الناس للتخيل بأن اللحظة التي فيها نبحر بعيدًا عن الشرائع الكتابية، نتمتع بالمزيد من الحرية والمزيد من التسامح. ليس هذا ما يُعلِّمنا التاريخ إياه لأننا شهدنا المزيد من انعدام الإنسانية، والمزيد من الهمجية، والمزيد من الوحشية كلما ابتعدنا عن ناموس الله". 

إذًا، فما الذي ينبغي علينا فعله كمؤمنين؟ لنبدأ بما علينا تجنُّبه. أحيانًا قد تشبه شهادتنا عن الحق الكتابي من يتحدث الإنجليزية في أرض أجنبية، معتقدًا أنه إذا رفع صوته قليلًا، فسيفهَمُ كلامَه أخيرًا مَن يخاطبهم. الخطاب الملتهب والصياح في وجه أحدنا الآخر يَسِمُ معظم أحاديثنا وحواراتنا الأخلاقية. لكن تصحيح أخطائنا سيتطلب منا تواضعًا وتحضرًا، وعلينا تعلُّم الحديث مع رفقائنا بالاستماع إلى تصوُّرهم عن العالم، وامتحان حُجَّتهم، ومن ثَمَّ الإشارة بلطف إلى التداعيات المنطقية لوجهات نظرهم. 

تؤسِّس الشريعة الإلهية لأصل الحريات المدنية والسياسية ومعاييرها. وفيها نجد الحكمة الخالدة التي تنظِّم إيقاع الحياة اليومي وهي حكمة تُسبُغ معنىً على مجاليّ الحياة والعمل وتمنحهما هدفًا. وهكذا، لا نخجل من المجاهرة بتأكيد صحة ناموس الله وضرورته. لأن البديل في ختام الأمر -أي (تصوُّر) الحرية الشخصية غير المُقيَّدة المصحوبة بجموح التملُّك- لا يجلب إلا جوعًا لا يُشبَع ووحدة لا تُقشَع. 

٢- الوظيفة التربوية:

 استقاءً من لغة بولس في غلاطية ٣: ٢٤، تحدَّث المصلحون أيضًا عن الدور التربوي للناموس. فإن المُرَبِّي pedagogus في الثقافة الرومانية كان العبد الذي اصطحب الطفل إلى المدرسة. وبالمثل، بكون المسيح هو المعلِّم، يؤدي الناموس وظيفة اصطحاب الطفل إلى المسيح. أشار (لوثر Luther) إلى ذلك بكونه "هدف الناموس الرئيسي ومساهمته الأقيَّم". ولمقولته المُعبِّرة عن هذه الحقيقة من القوة بما يجدر باقتباسها في كامل نصها:

"طالما لم يكن الشخص قاتلًا ولا زانيًا ولا لصًا، فإنه قد يحلف ببراءته. فكيف للرب إذًا أن يقود أحدنا إلى التواضع إلا من خلال الناموس؟ الناموس هو مطرقة الموت، ورعد الجحيم، وبرق الغضب الإلهي الذي يُخضِع المتكبرين والمنافقين الوقحين. حين أُعطي الناموس على جبل سيناء، صاحَبَ الإعلان البروق والعواصف وصوت البوق، حتى يُمزَق إربًا ذاك الوحش المدعو بالبر الذاتي. ولطالما ظن أحدهم أنه على صواب، سيبقى متكبرًا ومُدعِّيًا بما يعجز العقل البشري عن تفسيره. سيكره الله، ويحتقر نعمته ورحمته، ويتجاهل المواعيد المؤمَّنة في المسيح. إن إنجيل غفران الخطية المجاني من خلال المسيح لن يجذب أبدًا المنتفخين ببرهم الذاتي."

وحش البر الذاتي هذا، الكائن صلب الرقبة، يلزمه فأس ضخمة. وهكذا هو الناموس، فأس ضخمة. وتبعًا لما سبق، الاستخدام السليم للناموس ووظيفته هو التهديد والوعيد حتى ترتجف أوصال الضمير.

فقط حين ندرك عمق احتياجنا، نبدأ حقًا في استيعاب عظمة مخلِّصنا وجماله ونعمته. سواء شبَّهنا الناموس الإلهي بفأس يهدد بتمزيقنا أو مرآة تواجهنا بحقيقتنا، فوظيفة الناموس فيما يتعلق برسالة الإنجيل هو أن يبكِّتنا على خطية ويقنعنا باحتياجنا. مثل وصيٍ أو مُرَبٍّ، يقتادنا الناموس الي الرب يسوع المسيح.

٣- قانون للحياة للمؤمنين:

لخص (رالف إرسكاين Ralph Erskine)، الواعظ الأسكتلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر، الصلة ما بين الاستخدامَين الثاني والثالث للناموس بقوله:

حين يطاردني ناموس الله الناري

مقتادًا إياي الي طريق الإنجيل،

عندها أجد إنجيل النعمة يجذبني بكل لطف

إلي الناموس المقدس من جديد.

 يعبِّر الشعر الذي نظمه (إرسكاين) عن نفس المعنى الذي صاغه البيوريتاني (صامويل بولتون Samuel Bolton): "إن الإنجيل يرسلنا مجددًا إلى الناموس ليسألنا عن مسؤوليتا كأناس نالوا التبرير". وبعدما لا يترك ناموس الله أمامنا خيارًا إلا أن نخر على وجوهنا سجودًا فيما نرى حاجتنا الماسة للمسيح، يُعلِّمنا أن نسلك مجددا كما يحق للدعوة التي بها دُعينا (أنظر أفسس ٤: ١؛ كولوسي ١: ١٠؛ ١تسالونيكي ٢: ١٢).

في تأكيدنا على الاستخدام الثالث هذا للناموس، يتعيَّن أن نُنبِّر على حرية المؤمن من الناموس كمتطلَب للتبرير أو شرط يسبقه.

المؤمن لا يتبرر بحفظ الناموس، ولكن إذ قد تبرَّر، يحفظ الناموس. بعبارة أخرى، لا يجوز لنا أبدًا تقديم تقديسنا على تبريرنا.

فإننا لا نستطيع حفظ شريعة الرب حق حفظها إلا نبعًا من حياتنا في الروح وملازمةً لإيقاع خطوته (غلاطي ٥: ٢٥). يمنح الربُّ الروحَ لكل مؤمن عند توبته وإيمانه.

تحدَّث البيوريتانيون عن حفظ الناموس بسبب "قدرة يمنحها الإنجيل". فهم هؤلاء إمكانية "حفظ" الناموس ظاهريًا وتدقيقيًا في شكل من الالتزام الأخلاقي. وفي تضاد مباشر، أدركوا أن الله –إذا أمكننا القول- شكَّل قلب المؤمن على قالب ناموسه حتى يحفظ الناموس لا باجتهاده الطبيعي، ولكن فقط وأبديًا كنتاج لقوة الروح القدس الدافعة. يتمِّم المؤمن خلاصه بخوف ورعدة لأن "اللهَ هو العامِلُ فيكُم أنْ تُريدوا وأنْ تعمَلوا مِنْ أجلِ المَسَرَّةِ" (فيلبي ٢: ١٣).

لا يلزمنا النظر أبعد من حَدَث خروج شعب إسرائيل حتى ندرك مبدأ حفظ المفديين للناموس. أعطى الله الوصايا العشر لا للأمم المحيطة، بل لشعبه وكانت شرائع لشعبه المفديّ. يكتب (ماكليود Macleod): "تكمن عظمة الأمر في حقيقة مفادها أن الله لم يُخرِج شعبه من أرض مصر لأنهم حفظوا الوصايا العشر، بل أصبح لزامًا عليهم حفظ الوصايا العشر لأن الله قد أخرجهم. وبنفس الكيفية أعطى يسوع الموعظة على الجبل لا كدليل إرشادي حتى نصير تلاميذه، بل ككتيب عملي لهؤلاء الذين هم بنعمة الله تلاميذه. بكلمات ١كورنثوس ٦: ٢٠ "لأنَّكُمْ قد اشتُريتُمْ بثَمَنٍ. فمَجِّدوا اللهَ في أجسادِكُمْ وفي أرواحِكُمُ الّتي هي للهِ." ولأننا بالفعل اُفتدينا، نسعى الآن، بإرشاد ناموسه، أن نُمجِّد الله في كل ما نعمله.

بحسب مزمور ١٩ "الله ناموسه كامل" (الآية ٧). وكونه كاملًا، الناموس قادر على إنعاش نفوسنا (الآية ٧)، وجعلنا حكماء (الآية ٧)، وإدخال الفرح على قلوبنا (الآية ٨)، وإنارة أعيننا (الآية ٨)، ومنحنا طعمًا أحلى من العسل (الآية ١٠). سيلزمنا على الدوام بذل الجهد في تحديد كيفية تطبيق شريعة الله في مواقفنا وسياقاتنا الزمانية والمكانية. وسواء ساعد تطبيق الناموس في حكم المجتمع ككل، أو أرانا مجددًا احتياجنا المستمر للمسيح، أو أعاننا على السير في طريقنا نحو القداسة، نتوقع أن يصبح ناموس الله نبعًا فوارًا من السرور لكل من يطلب الله من خلاله (مزمور ١: ٢، ٣). 


هذه المادة مُقدَّمة بتصرف من Pathway to Freedom لأليستير بيج (2021©).

ونُشرت بواسطة "دار مودي للنشر". www.MoodyPublishers.com ومستخدمة بتصريح.


تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع موقع Truth For Life وضمن سلسلة من المقالات القيّمة التي ستقوم خدمة "الصورة" بنشرها باللغة العربية.

يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط: Timeless Truths for a Changing World: The Threefold Use of God’s Law