طاعة الوصايا ليست تديُّن

   إن أحد أهم المواضيع في الحياة المسيحية هو علاقة المؤمن الحقيقي المولود من الله بالناموس الأخلاقي، الوصايا العشر (خروج 20: 1-21).[1] فالكلمة الأكثر تكرارًا والأقرب إلى الذهن في الوسط المسيحي حينما نتحدث عن الوصايا الأخلاقية هي "التدين" بالمعنى السلبي،[2] حيث مَن يسعى لحفظ الوصايا بتدقيق يُسمى بالشخص المتدين (بالعامية/ مِقفِّل). والهدف من هذا المقال القصير ليس القول بأنه لا يوجد تدين (بالمعنى السلبي للكلمة) فهذا بالتأكيد هو أحد أكبر مشاكلنا، إذ أن محور كل ديانة بشرية طبيعية من اختراع البشر هو محاولات الإنسان أن يعمل أعمالًا صالحة لتكون أساس قبول الله له! وهذا تدين ضد رسالة إنجيل النعمة. ولكن الهدف من هذه المقالة هو التأكيد على أن ليست كل طاعة للوصايا، ولا كل تدقيق في حياة المؤمن المسيحي هو تديُّن بمعناه السلبي. ولكن لكي نصل إلى فهمٍ كتابيٍّ للوصايا علينا أن نفهم أولًا استخدامات الناموس الثلاثة.

اتفق معظم المصلحين الذين قادوا حركة الإصلاح في القرن الرابع عشر وإلى القرن السابع عشر على أن الكتاب المقدس يُقدِّم ثلاثة استخدامات للناموس الأخلاقي. أولًا، أعطى الله الشريعة الأخلاقية لتحجيم الشر وردعه في العالم. فعلى سبيل المثال وجود عقوبة مدنية معينة عند كسر وصية ما (مثل "لا تقتل") وارتكاب جريمة، تجعل الإنسان يُفكّر في نتائج أفعاله وفي بعض الأحيان يتراجع عن كسر إحدى الوصايا؛ خوفًا من عواقبها وعقوبتها (1 تيم 1: 9-11؛ رومية 13: 1-7).

ثانيًا، تعمل الوصايا العشر كالقانون على لسان القاضي في ساحة ضميري كإنسان، تُعلِن أني بالفعل مجرم وكاسر للقانون! بكلمات أخرى تعمل الوصايا كمرآة أو كأشِعّة مقطعية تكشِف حقيقة فساد قلب الإنسان من الداخل. فكل إنسان يُنيره الروح القدس على حقيقة طبيعة قلبه سيجده كوصف المسيح في مرقس 7: 20-23 مليء بكل صنوف الفساد والعصيان وكسر الوصايا.[3] وقد أشار بولس لهذا عندما قال "ولكن لمّا جاءت الوصية عاشت الخطية، فمُتُّ أنا" (رومية 7: 9). فهكذا يقود الروح القدس الإنسان للمسيح، بأن يكشف للإنسان حقيقة فساده وعجزه التام لإتمام الوصايا كطريق للخلاص، وللقبول أمام الله واحتياجه لمُخلِّص (غلاطية 3: 10، 24). يكشف الروح القدس حقيقة قداسة الوصية، وأن الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا (غلاطية 3: 12). لكن في هذا الوقت نفسه يُقنعني بأنه إن كان القبول أمام الله هو عن طريق حفظ الوصايا "فأنا أول المرفوضين، أول المحكوم عليهم، أول الهالكين." وحينما يصرخ الخاطىء طالبًا الرحمة، يكسو المسيح هذا الخاطىء اليائس برداء أبيض، ببرِّه المجاني، إذ يحسب المسيح كل طاعته الشخصية في رصيد هذا الخاطىء، ويُطهِّر الخاطىء بدمه الثمين من كل خطية، ويصالحه مع الله الآب، ويعطيه قلبًا جديدًا (2 كورنثوس 5: 21).

أمّا الاستخدام الثالث  للناموس، فهو لأولئك الذين نالوا برّ المسيح المجاني، وتصالحوا مع الله، وصاروا خليقة جديدة. هؤلاء يقبلون الوصايا من الله، لا كقاضٍ يحاكمهم في ساحة القضاء لكسرهم شريعتهِ، بل كأب مُحب يريد أن يحاوط أبناءَه بسياج الوصايا لخيرهم، ولكي يحفظهم من الخطية. هؤلاء يدركون أن المشكلة لم تكن للحظة في الوصايا، إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ،(رومية 7: 12)، لكنّها دائمًا في الخطية الساكنة فيهم (رومية 7: 11، 13-14).

أمّا الآن فقد تغيّرت علاقة هذا المؤمن الحقيقي بالوصايا وصارت الوصايا دائمًا ممُتزجة بالحب، إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، (يوحنا 14: 15)، بدلًا من الخوف. وصار مركز الوصية هو محبة الله والقريب (مرقس 12: 30-31). الله نفسه يكتب الوصية في قلب المؤمن بالروح القدس (عبرانيين 8: 10-12)، فتصير الشريعة لذّة وفرح للمولودين من الله، وتكون تسبيحتهم "فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي، لأَنَّكَ تُرَحِّبُ قَلْبِي" (مزمور 119: 32). وهم يعلمون جيدًا أنّ حفظ الوصايا لا يُعطِيهم الحق للمثول أمام الله، فبرُّ المسيح وحده وكفاية طاعته في حياته وفداؤه على الصليب يعطيهم هذا الحق.

يعلم المؤمنون جيدًا أنّ طاعتهم ليست كاملة، لكنّها صادقة. هم يتأمّلون في وصايا الله نهارًا وليلًا لأنهم يعلمون أنها هي السراج الوحيد لهم في رحلتهم إلى المدينة السماوية (مزمور 119: 105). هم لا يستحون بمَن يحبون الوصايا، بل يسعون للتواجد مع مَن هم أكثر حبًا للوصايا منهم. هؤلاء لا ينتظرون أحاسيس روحانية معينة لكي يطيعوا الله، ولا ينتظرون أن يقودهم الروح القدس بصوت خفيّ داخلي في كل تحرك، فهُم لا يبحثون عن الحق ولا عن إرضاء الله في شيء ما بداخلهم. بل يسيرون بصوت الروح المُعلَن في الكتاب المُقدّس واثقين أن الروح يعمل من خلال الكلمة التي أعلن فيها كل ما عنده. هؤلاء ينظرون لإنجيل المسيح كنعمة غنية منحتهم الخلاص المجاني، وللوصايا كإعلانٍ عمّا يريد الله أن يكونوه عبر سيرهم مع المسيح بإيمان، حيث يتشكلون بشكل يومي في هذا الخلاص الذي نالوه.

وأود أن أختم مقالي بمارتن لوثر الذي تجادل اللاهوتيّون عن إيمانه بهذا الاستخدام الثالث للناموس، والذي كتب هو نفسه تفسير طويل للوصايا العشر إيمانًا منه بأهميتها في حياة المؤمن. فقد أكّد لوثر أن قبل التجديد تكون الوصية كالعصا التي في يد الله ضد خطايانا، ولكن بعد التجديد يكون الناموس عصا في يدنا تساعدنا على السير مع الله. فالناموس يقودنا للمسيح الذي من خلاله وبقوته نصير حافظي الوصايا.[4]

_______________________________________________________________________________________________________________________

[1] سوف أستخدم كلمة الناموس، الوصايا الأخلاقية، الوصايا العشر، الشريعة بالتبادل في هذا المقال. علمًا بأن ناموس العهد القديم كان يحتوي على جانب أخلاقي، وآخر طقسي، وآخر مدني، لكن هنا التركيز على الناموس الأخلاقي أو الوصايا العشر.

[2] يستخدم العهد الجديد كلمة "الدين" أو "الديانة" أو "التدين" بشكل إيجابي في يعقوب 1: 26-27.

[3] يقول جوناثان أدواردز في أحد كتاباته أن النظرة السطحية للناموس تولَّد برَّ ذاتي إذ يظن الإنسان انه يفعل ما يكفي ليكون مقبولا لدى الله، ولكن الوعظ (السليم) بالناموس يُحطّم البرَّ الذاتي، إذ أنه يكشف للإنسان سمو قداسة المعيار الأخلاقي الإلهي المنعكس في شريعة الله.

[4] Luther, Lectures in Galatians, 1535, in Works, 26: 260.