عبودية الإرادة

الحوار اللاهوتي حول إرادة الإنسان ومدى إسهامها في خلاصه، هو جدل قد أُثير مرات عديدة عبر تاريخ الكنيسة. لعل أحد أشهر وأقدم هذه المجادلات حول هذا الأمر كان بين أغسطينوس وبيلاجيوس في القرن الخامس الميلادي. ومع أن رأي بيلاجيوس قد أُدين بالهرطقة في مجمع قرطاج عام ٤١٨ م، إلَّا أن الجدل حول دور إرادة الإنسان في قبول الخلاص ظل دائرًا في الكنيسة. ثم جاء وقت الإصلاح في القرن السادس عشر بحوار شهير آخر حول نفس القضية بين مارتن لوثر وإيرازموس. في عام ١٥٢٥، كتب مارتن لوثر أحد أهم كتبه بعنوان "عبودية الإرادة"، والذي كان ردًا على كتاب قد كتبه إيرازموس عام ١٥٢٤ بعنوان "خطبة لاذعة حول حرية الإرادة".

ولكن، ماذا كان يقصد لوثر عند استخدامه مصطلح "عبودية الإرادة"؟

لم ينكر لوثر أن البشر قادرين على اتخاذ قرارات. فبحسب لوثر، البشر ليسوا عرائس. لكنه رفض أن تُنسب أي قدرة طبيعية لدى البشر للقيام بأعمال بارَّة، أو لطاعة الله من القلب، أو حتى لممارسة الإيمان كرد فعل على الوعظ بالإنجيل. لذلك فما رفضه المُصلح الألماني ليس قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات بشكل عام، وإنما وجود أي قدرة طبيعية [أي بدون عمل الروح القدس] لدى البشر ليؤمنوا إيمانًا خلاصيًا أو ليقوموا بأعمال صالحة من القلب. بالنسبة للوثر، وحدها نعمة الله المجانية، ذات السلطان الإلهي، هي القادرة على أن تنقذنا من عجزنا التام وذلك بإعطائنا قلوب جديدة لحميّة تقدر أن تؤمن برسالة الإنجيل وتطيع وصايا الله من القلب.

رفض إيرازموس بالطبع فكر لوثر فيما يتعلق بعبودية الإرادة. ومع أنه وافق على إنه بدون نعمة الله لا يمكن للإنسان أن يُخلّص، إلّا أنه أكد على قدرة الإنسان للتجاوب مع هذه النعمة بإرادته الحرة. وبذلك يكون هناك تآزر أو تعاون Synergism  في عملية الخلاص بين نعمة الله وقبول الإنسان. من الناحية الأخرى تمسّك لوثر بما يسمى بالـ Monergism وهو المصطلح الذي يعني أن الله وحده هو من يُفعّل الخلاص في قلب الإنسان. رأى لوثر أنه بحسب الرسول بولس لا توجد فروق بين إنسان وآخر، بمعنى أنه لا استثناءات. فبأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه (رومية ٣: ٢٠). فقط من خلال نعمة الله ذات السلطان الكامل يمكن أن نخلص بالإيمان في المسيح وذلك دون أي تدخل أو تعاون من إرادتنا الطبيعية، فحتى هذا الإيمان الذي به نتحد بالمسيح هو عطية الله، والذي نعيشه بسبب المعجزة التي يحدثها الله في قلوبنا بالروح القدس.

لم تكن هذه العقيدة ثانوية بالنسبة للوثر بل مسألة حياة أو موت، وذلك ليس فقط لأنها تؤكّد عجزنا التام، ولا لأنها فقط توضح عظمة عمل الله الكامل في خلاصنا، ولكن لأنها تتعلق بشخصية الله نفسه. كان الحوار بين لوثر وإيرازموس متعلقًا بطبيعتنا وطبيعة الله، بقدراتنا وقدرته. أكّد لوثر أنه إن لم نعرف مدى انحطاط حالتنا وانعدام وجود أي أمل فيها، فلن نفهم مدى روعة وقوة رسالة الإنجيل ولن نفهم عظمة خلاص الله. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ لأن معرفتنا لعجزنا التام وعبوديتنا للخطية من جهة، ومعرفتنا لقوة الله وسلطان نعمته لإنقاذنا من وضعنا الميئوس من جهة أخرى، تؤثر بشكل جذري في معرفتنا لشخصية الله وفي الطريقة التي نعبده ونشكره بها.

يقول لوثر في هذا الشأن:

"لذلك، ليس من الفجور أو الغريب أو الغير ضروري أن يعرف الشخص المسيحي إن كانت الإرادة تقوم بأي شيء فيما يتعلق بالخلاص، بل إنه أمر مهم وضروري للغاية. لكن دعني أقول لك: هذه هي المفصلة التي تدور حولها مناقشتنا. هذا هو قلب موضوعنا، إذ أن هدفنا هو أن نستفسر عمّا يمكن أن تفعله "الإرادة الحرة"، وما هي الأمور التي تكون فيها سلبية وما علاقتها بنعمة الله... إن لم أكن أعرف كم أستطيع أن أفعل بنفسي، إلى أي مدى تمتد قدراتي، وما هي الأمور التي يمكن أن أفعلها فيما يتعلق بالرجوع إلى الله، فسأكون على نفس القدر من الجهل وعدم اليقينية فيما يتعلق بحجم ما فعله الله وإلى أي مدى يمكن أن تمتد قدرته، وما يفعله نحوي. وإن لم أكن أعرف الفرق بين عملنا وبين قوة الله، إذن فأنا لا أعرف الله نفسه. وإن لم أكن أعرف الله، فلن يمكنني عبادته أو تسبيحه أو شكره أو خدمته. ذلك، لأني لا أعرف كم يجب أن أُنسب لنفسي وكم يجب أن أُنسب له. لذلك، من الضروري أن نميّز بوضوح شديد بين قدرة الله وبين قدرتنا، وبين عمل الله وعملنا إن أردنا أن نعيش في مخافته"*

بالنسبة للوثر، لم يأت المسيح ليجعل الخلاص مُتاحًا، بحيث أن الأمر يتوقف الآن على البشر ليستفيدوا من عملهِ أم لا! لكنه آمَن بأن المسيح جاء ليُخلّص شعبه من حالتهم الميئوس منها والعاجزة تمامًا. يُخلّصهم حتى المنتهى. ولذلك، يستحق الله كل المجد والعبادة بسبب طبيعته، وبسبب ما فعله ويفعله وسيفعله في خلاصنا. فالجدال اللاهوتي حول عبودية الإرادة إذًا، ليس مجرد جدالًا يقع بين اللاهوتيين في أبراجهم العاجية والذي فيه يستمتعون بحوار فكري عميق لا يمسّ الواقع البشري ولا الكنسي، ولكنه يرتبط ارتباطًا مباشرًا بهويتنا وقدرتنا وبطبيعة وقدرة الله. وبناء على ذلك، ففهمنا لمدى عجزنا واحتياجنا لنعمة الله سيؤثر لا محالة على عبادتنا وتسبيحنا وشكرنا لله.وهذا ما جعل لوثر يؤكد على أن الإيمان بعبودية الإرادة يتعلق بشكل مباشر بأهم أمر في حياتنا؛ ألا وهو تمجيد الله.

المجد لله وحده+

*Martin Luther, The Bondage of the Will, trans by. Henry Cole (London: T. Bensley, 1823), 23.