عادةً ما تأتي بعض الصور لأذهاننا عندما نُفكر في احتفالات عيد الميلاد. فنفكّر مثلًا في احتفالات، وشجرة مُزيَّنة، وهدايا، وإجازة ممتعة. لكن دعونا نحاول الخروج من عالمنا نحن، وننظر للأمر من وجهة نظره هو؛ أي يسوع، مولود بيت لحم. الابن الأزلي الذي كان يسكن في محضر الله، أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، وجاء لعالمنا الساقط البائس.
نرى في أشعياء ٦ مشهدًا مذهلاً؛ حيث يؤخَذ أشعياء ليمثُلَ أمام السيد الربّ في قداسته الغير المحدودة، وهو المشهد عينه الذي نرى فيه الملائكة الأطهار يغطُّون وجوههم وهم في محضر الله بكل وقارٍ واحترام. في تجسُّد الابن، نرى العكس! فها ابن القدوس يأتي إلى عالم ساقط وخاطئ.
لا تتخيّل عزيزي القارئ، أنّ الابن قد "تحوَّل" ليكون إنسانًا و"توقَّف" عن أن يكون الله عندما جاء إلى عالمنا، فهو لم يتخلّى عن ألوهيته قط.
في التأنُّس، لم يتوقّف الكلمة عن كونه ابن الله الأزلي، لكنه صار أيضًا واحدًا منّا، "تشارَك معنا في الدّم واللّحم"، بحسب وصف كاتب الرسالة إلى العبرانيين، أي؛ أخذ طبيعتنا الإنسانية بالكامل، ماعدا الخطية الدخيلة عليها بالسقوط!
بدون هاتين الطبيعتين لم يكن مُمكنًا أن يُتمِّمَ العمل الذي جاء من أجلهِ. فالله فقط هو مَن يستطيع أن يخلِّصنا ممّا نحن فيه. نحن لا نستطيع أن نخلِّص أنفسنا ولا أن نخلِّص آخرين. ولكنه كان يجب أيضًا أن يكون إنسانًا كي ما يُمثّلنا ويكون نائبًا وبديلاً عنّا.
فالكلمة إذًا الذي صار بشرًا وحلَّ بينَنَا، كان الله حقًا وإنسانًا حقًا، وجاء ليعيش في عالمٍ خاطئ، وهو ذاته بلا خطية.
نخطئ كثيرًا إذ نظنّها مهمّةً يَسِيرة بالنسبة له، فهو الله على أيةِ حالٍ، ولكن الحقيقة هي العكس تمامًا. فحساسيتك الروحيّة العالية تجعل من وجودك وسط الخطية أصعب لا أسهل! فما بالك أن تكون القدوس، الخالي من أي دَنَس ومن كل نَقْص، حينها يصير هذا العالم بالنسبة لك مكانًا لا يُطاق.
تخيّل معي هذا المشهد، حيث يأتي شخص لا يدخِّن إلى مكانٍ يدخِّن كل مَن فيه، وينفثُون أنفاسهم الكريهة في وجههِ، غير مُبالين بل وضاحكين وساخرين من ضيقهِ من هذا الوضع العام. أو تخيّل أنك دخلت بنايةً وذهبت للمصعد لتجد أن كل من فيه يدخِّن وعليك أن تتحمَّل البقاء فيه حتى تصل للدور الأخير. الوضع خانِق ولا يُطَاق. الغريب هنا، أن كل من يدخِّن لا يشعر بمثل هذا الشعور، بل يجد نفسه راغبًا في أن يفعل مثلهم. تمامًا مثل دخّان السجائر هكذا الخطية، تملأ الجوّ الذي نعيش فيه.
في الحقيقة، نحن لا نشعر ببشاعة الخطية ولا نعرف طعمها القبيح حقًا لأنها طبيعية بالنسبة لنا. فالنجاسة لا تؤذي أعيننا بل نجري نحوها، كلام السَفَه لا يؤذي آذاننا بل نضحك لسماعه، ونشتاق للمزيد منه.
يسوع المسيح، الكلمة المُتجسّد، رأى وشَعَر بقُبح الخطية، وكم هي مليئة بالعصيان والتمرد على الله. الربّ القدير والغني تذوّق الضعف والاحتياج، مصدر الحياة تقابَل مع المرض والموت بل اجتازه وهزمه. إن عمق الحزن والخزي الذي اختبره لا يقارَن بما نختبره نحن في حياتنا على الأرض.
الأمر أشبه بحضورك أوركسترا كبيرة تستمع لعزفها وتستمتع به، ثم يأتي موسيقار عظيم ليستمع لنفس الأوركسترا ويشعر حينها بكل "نشاز" في النغمِ والألحان. كان المسيح حسَّاسًا لكل مرض ولكل حزن ولكل خطية، وهو الذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشر - عاش وسط عالمنا الشرير. هذا، عزيزي، هو معنى "الكلمة صار جسدًا وحلَّ بينَنَا".
إنّ تجسُّد المسيح ليس أمرًا مؤقتًا انتهى بقيامته وصعوده إلى السماء، فلقد اتَّحد المسيح بطبيعتنا في التجسُّد وسيظل مشتَرِكًا معنا في هذه الطبيعة إلى الأبد. يؤكد كاتب العبرانيين هذه الحقيقة المُعزّية التي تعطي رجاء وقت الضعف والألم والتجربة إذ يقول عن الابن المتأنس "..كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا ِللهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. أَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عبرانيين ٢: ١٧-١٨).