نحن غير مدعوين لنكون عظماء

في بداية العام ٢٠١٥، أدلى مايكل بلومبرج Michael Bloomberg عمدة مدينة نيويورك ببيان مُذهل، وكان هذا أثناء خطاب كان يستعرض فيه إرثه الخاص وما خلَّفه من أعمال بعمر الثانية والسبعين. تحدث عمدة مدينة نيويورك عن المبادرات التي قادها لإنقاص السمنة، والحد من آثار التدخين السلبي في الأماكن العامة، والقضاء على العنف الناجم عن استخدام الأسلحة في الشوارع. في كل من هذه المبادرات، أبدى العمدة (بلومبرج) رغبة في تحسين صحة الإنسان، تعزيز الأمن والازدهار. المفاجأة في خطابه جاءت فيما أوصى به مستمعيه وفيه تأمل في الحياة ما بعد الموت. قال – وأنا هنا أنقل ما قاله العمدة كلمة بكلمة:

"أخبركم أنه إذا ما كان هناك إله، فإنه عند وصولي للسماء لن يستوقفني أحد ليسألني كما في مقابلة لقبول وظيفة، لأنني سأدخل مباشرة إذ قد دفعتُ مقابل مقعدي في السماء، لن يستوقفني أحد مطلقاً."

بعدما استمعت لبيان العمدة لأول مرة، لاحت لي فكرة: "أيًّـا كانت وجهة نظرنا عن المسيحية، فإنها الديانة الأكثر تفرداً بين جميع الديانات التي عرفها العالم." ويرجع تفردها لأن لها – بخلاف كل ديانة أخرى عرفها البشر – نظرة مغايرة تماماً للحياة ما بعد الموت - كما وصفها (مايكل بلومبرج).

فإنه مع يسوع – ومعه وحده – يُفتَح لنا باب الدخول للسماء في بداية الرحلة لا نهايتها. والباب هو يسوع ذاته. فقد عاش الحياة التي كان يجب أن نحياها نحن ومات الميتة التي كان يجب أن نموتها نحن لكيلا نضطر أن نموتها بعد الآن ... لأنه عاش ومات بدلاً عنا. وقام من الأموات لختم الأمر.

وكل ديانة أخرى غير المسيحية تقول ما قاله العمدة (بلومبرج) عن نفسه: إذا أردت الوصول إلى السماء، فعليك إنجاز أمراً ما. عليك أن تفي بشروط معينة. عليك أن تأتي تتمم الأمر بنفسك.

بالنسبة لأي شخص أمين مع ذاته، هذه فكرة مرعبة. حتى كارل ماركس Karl Marx أدرك هذا. في لحظة نادرة من اللحظات التي قرر فيها أن يقف وقفة أمينة مع النفس، أفصح (ماركس) عن فكرة دفينة لا شك أنها كانت وثيقة الصلة بنظرته للعالم، التي اعتنقها لاحقاً. فقد قال (ماركس) متفكراً في صراعه الشخصي من أجل تحقيق "الخلاص" أو "المعنى" أو "الهوية" أو أياً كان ما نطلق عليه، قال:

"أنا لا شيء وينبغي أن أكون كل شيء. فعلى الإنسان – ذلك الكائن الفقير الشقي – إخفاء حقارته."

في الحقيقة، يتحدث (مايكل بلومبرج) و (كارل ماركس) عن الفكرة عينها لكن من زاوية مختلفة. فبينما يطرحها (بلومبرج) من منطلق التفوق والإحساس بالعظمة، فإن (ماركس) يتحدث من منطلق الدونية والإحساس بالحقارة. كلاهما – مع الاختلاف الظاهري – يقرّر أن تحقيق الخلاص يأتي من خلال العمل، والكد، والجهد البشري، والتوقعات المُحقَّقَة. فنحن نبدأ صغاراً ونصبح أيـًّا ما نصنعه من أنفسنا. وفي النهاية، سيكون "الأداء" هو معيار خلاصنا أو دينونتنا. ستكون هذه تذكرة قبولنا أمام الله (إذا آمنَّا بوجوده)، وأمام الآخرين وأمام أنفسنا.

هل تساءلت يوماً عن مصدر هذا النَهَم والجُوع الذي لا يُشبَع؟ أتعرفه؟ تلك الرغبة المحمومة لرؤية اسماءنا محفورة على مبنى، أو في كتاب تاريخ، أو على قائمة متبرعين، أو على غلاف ألبوم أو في صناعة معينة، أو يذكره أحفادنا؟ هل تساءلت يوماً عمّا وراء الدافع لإنجاز أمراً مُعيَّناً، أو الرغبة في تحقيق إرث ما؟

ولكن ماذا لو كان هذا قد تم إنجازه بالفعل لصالحك؟ ماذا لو أن إرثك قد تحقق سلفاً؟ ماذا لو أن الرب هو مَن منحك هذا الاسم والإرث بالفعل؟

لأنه بالحق قد فعل هذا.

يسوع المسيح عاش ومات - وضع نفسه، جاعلاً إياها كأنما بلا قيمة - حتى لا تشعر أنت أبداً أنك بلا قيمة. صار محتَقراً حتى لا تضطر أنت أبداً أن "تُخفي حقارتك" باعتبارك كائن فقير وشقي. وقام من الأموات حنى تتمكن أنت من دخول السماء مباشرة دون أن يستوقفك أحدهم بالأسئلة كما لو كنت مُقدمًا على الالتحاق بوظيفة ما، لأنه قد تمّت محاكمتك بالفعل وسِجِّل إنجازاتك أسسه شخص آخر غيرك. 

باب السماء مفتوح لك في بداية رحلتك لا نهايتها.

بكلمات أخرى، لم يدعُك الرب لتكون عظيماً، بل دعاك لتكون متواضعاً وأميناً ومغفور الإثم وحُرّاً.

ويمكننا جميعًا أن ننسب العظمة ليسوع. وعندها نتغير نحن أيضاً لأفضل ما يمكن أن نكونه. إنما دون ضغط يجعلنا نبحث عن العظمة بعيدًا عن الرب يسوع المسيح.


تُرجِم هذا المقال ونُشِر بالاتفاق مع موقع Gospel-Centered Discipleship وضمن سلسلة من المقالات القيّمة التي ستقوم خدمة "الصورة" بنشرها باللغة العربية تباعًا في إطار الشراكة مع خدمة "تلمذة مركزها الإنجيل".

يمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية من خلال الرابط:  We are not called to be Awesome