"وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ ٱلنِّعْمَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ... فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ يَكُونُ يَنْبُوعٌ مَفْتُوحًا لِبَيْتِ دَاوُدَ وَلِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ لِلْخَطِيَّةِ وَلِلْنَجَاسَةِ." (زكريا 10:12 ، 1:13)
في أيام احتفالنا بموت المسيح وقيامته نأتي للكلمة لنكتشف غنى حديثها عن عمل الله الخلاصي في المسيح يسوع.
قبل مجيء المسيح بخمسة قرون، رسم النبي زكريا إحدى اللوحات النبوية التي نرى فيها ملامح شخص وعمل المسيح (زكريا ١٢: ١٠ و١٣: ١). لقد وصف زكريا شعبَ الله أنّهم شعبٌ مُستمرّ في عِناد وكُره الراعي الصالح الذي أقامه الله عليهم ( ١١: ٨). بعدما ترك الشعبُ الراعي الصالح، وزنوا أُجرته "ثلاثين من الفضة" ( ١١: ١٢)، وقد كان هذا ثمن العبد في العهد القديم (خروج ٢١: ٣٢). الأمر الذي جعل زكريا يقول ساخرًا أنَّه "ثمنٌ كريم!" لاحظ البُعد النبوي لهذه الأعداد التي اقتبسها متّى البشير في حديثه عن خيانة الشعب للراعي الأعظم، يسوع المسيح (متّى ٢٧: ٧-١٠). وبالتأكيد الشعب الذي يرفض راعيه ويثمِّنه بثمن عبد، لا يستحق غير الدينونة والموت ( ١١: ٩). لكن الغريب أنّ الله لا يتوقّف عند دينونة الشعب، فبدلاً من أن يَعِد بطوفان دينونة، يَعِد بفيضان من النعمة، قائلاً: "وَأُفِيضُ... رُوحَ ٱلنِّعْمَةِ وَٱلتَّضَرُّعَاتِ".
إنّ النعمة هي العطية المجانية التي تأتي بعكس كل التوقُّعات لمَن يستحقّ الغضب والدينونة. تَجلِب النعمةُ الحياةَ والخلاصَ المجانيّ. والمقصود "بروح النعمة" هنا هو أنّ الله سيعطي بنعمته روحًا جديدًا لخطاة قد سبق أن رفضوه. وهذا إنَّما يُشبِه ما نقرأه فيحزقيال ٣٦: ٢٦-٢٧ "وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ ٱلْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ..."، أمَّا "رُوح ٱلتَّضَرُّعَاتِ" فيُعبِّر عن القلب المُمتلئ بصلوات عميقة كردّ فعل لقبول الروح الجديدة بالنعمة. حقًّا، إنّ هذا التحوُّل هو أعظم أعمال الروح القدس في النفس البشرية.
لكن لاحظ ما هو أول ردّ فعل يتبع هذا السكيب الإلهي: "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ"، أي إلى الله!
يريد الله أن ينظُرَ إليه شعبُه، حتّى يفيض عليهم بعطايا نعمته. فلا يُوجَد دعوة في المسيحية أهمّ من "انْظُروا إِلَيَّ"، "اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ." (إشعياء ٤٥: ٢٢). ومَن هو هذا الإله الذي يَعِد بأن يفيض على جماعته العهدية؟ ويدعونا للنظر إِلَيَه؟ هو نفسه الإله "ٱلَّذِي طَعَنُوهُ".
نعم، هو الإله الذي قَبِل الحربة في جنبه من أيدي الأثمة. فيوحنَّا تلميذه يشهد لنا، "لَكِنَّ وَاحِدًا مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ... وَأَيْضًا يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى ٱلَّذِي طَعَنُوهُ»." (يوحنا ١٩: ٣٤، ٣٧).إنّ الذين طعنوه حرفيًا كانوا الجنود الرومان وكان كلّ ذلك بتدبير وموافقة اليهود. لذا، أمم ويهود سينظرون إليه، وسيستمر الذين ينالون الخلاص في النظر إليه مطعونًا لأجل خطاياهم إلى أن يجيء (رؤ ١: ٧).
لم يكتفِ زكريا بوصف الله المطعون من شعبه، بل وصف لنا قوة التبكيت التي ستستحوذ على شعب الله عندما يدركون خطيتهم وفي أثناء توبتهم عندما قال إنهم "يَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ".فلنسأل إبراهيم لنعرف انكسار القلب على الابن الوحيد (تكوين ٢٢: ٢، ١٢)، أو لنسأل يَفتاح عن حزنه على ابنته الوحيدة (قضاه ١١: ٣٤)، بل ولنسمع "الصُّراخ العظيم في مصر" الذي صار عندما فقدوا كل ابن بكر في بيوتهم تحت دينونة الله (خروج ١٢: ٣٠). لكن الأعظم من كل ابن وحيد، والأسمى من كل ابن بكر، هو هذا الإله المطعون، يسوع المسيح البارّ. حقًّا هو "اَلِٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلْآبِ" الذي أخبرنا عن الله (يوحنا ١: ١٨) عندما احتجب عنَّا الله بسبب خطايانا. وهو الابن البكر الذي يرشد خطوات إخوته في طريق الرجوع لأبيه وأبيهم (رومية ٨: ٢٩؛ كولوسي ١: ١٥، ١٨).
وإذ نحتفل هذه الأيام بجنبه المطعون الذي فاض منه دمٌ وماءٌ ليكون "يَنْبُوعٌ مَفْتُوحًا ... لِلْخَطِيَّةِ وَلِلْنَجَاسَةِ". ما هذا الينبوع إلّا دعوة الله للجميع أن يأتوا وينظروا إلى المصلوب، وينوحوا على الخطية التي صلبت حمل الله ويتطهّروا في مياه هذا الينبوع من كل خطية ونجاسة.
فهل عرفت النواحَ على خطيتك التي علّقَت الابن الوحيد؟ هل أتيت عند أقدام الصليب ونظرت إلى الجنبِ المطعون؟ هل قبِلت فيضان هذا الينبوع ليغسل كل خطاياك ونجاستك؟