لماذا الأنين؟

”لِأَنَّ ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ ٱسْتِعْلَانَ أَبْنَاءِ ٱللهِ. إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ -لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا- عَلَى ٱلرَّجَاءِ، لِأَنَّ ٱلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلَادِ ٱللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى ٱلْآنَ. وَلَيْسَ هَكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ ٱلَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ ٱلرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ ٱلتَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا.“ (رومية ٨: ١٩-٢٣)

 

ليس صعبًا أن نفهم كلمة الله في أثناء الوقت الذي نمرّ به الآن، بل ونراها أيضًا ترسم لنا لوحة بأحبار واضحة الملامح، عندما تقول أنّ الخليقة ”مُخضَعة للبطل“، ”وتحت عبودية الفساد“، وأنّها ”تئِنّ وتتمخَّض“. فالأحداث من حولنا وعلى رأسها فيروس كورونا، وما رأيناه من أمطار وبروق ورعود دمّرت بعض البيوت في أرض مصر، تجعل كلمات هذا النص تبدو لنا كلمات حية، نسمع فيها وصف الله لما يحدث حولنا. الخليقة تئِنّ، وعندما يعلو صوتها يرتعب الإنسان بل ويمتلئ البعض من ذعر الألم والخوف واقتراب حقيقة الموت.

إذا كان الكل يئِنّون، فعلينا أن نرى حقيقة كون الخليقة -مع أبناء الله- تئِنّ ”على رجاء“. الحقيقة أنّ هناك مَن ”يئِنّون على رجاء“ ومَن ”يئِنّون بلا رجاء“. وبينما يئِنّ هؤلاء على رجاء لأنّهم عالِمون سبب الأنين الحقيقي، وعارفون أنّ هذا الأنين سوف ينتهي. ويختبرون أنّ هناك نعمة وتعزية وسلام وسط الأنين، وينتظرون مجدًا وفرحًا أعظم سيحلّ بعد انتهاء الأنين. يُوجَد أولئك الّذين ”يئِنّون بلا رجاء“. إنّهم لا يعرفون السبب الحقيقي للأنين، لذا يجتازون الأنين دون عزاء حقيقي، وليس لهم رجاء واثق وثابت أنّ يومًا ما سينتهي الأنين. فكِّر معي في بؤس الأنين والتعب والألم دون تعزية ورجاء.

فكِّر معي في امرأة حُبلى تئِنّ وتتمخّض في ألم شديد وقد أخبرها الأطباء أنّ طفلَها مريضٌ مرضًا شديدًا لن يُبقيه حيًا إلا بعض الساعات بعد ولادته. هذه المرأة تعرف أنّ طفلها لن يعيش ولكنّها تئِنّ وتتألّم. هي تئِنَ، لكن ليس على رجاء. لكن فكِّر في امرأة أخرى حامل بعد عدّة سنوات دون حمل، مثل سارة امرأة إبراهيم، تئِنّ وتتمخّض في ألمٍ شديدٍ وقت حملها بإسحاق. كانت سارة ترجو رجاءً شديدًا أن ترى طفل الموعد الذي طالما انتظَرَته، وهي تعرف بوعد من الله أنّ هذا الطفل سيعيش، وسيكون طفلًا مُباركًا وبركة لجميع الأمم. المرأة الأولى تئِنّ وتتألّم، تتعب وتمرّ بوقتِ ضِيقٍ شديدٍ، لكن دون رجاء، فيا لها من امرأة حالها بائس جدًّا! أمّا المرأة الثانية فرجاؤها أكيد وسيكتمل فرحها يومًا. فعندما يأتي وقت مخاض الولادة نرى كلمات السيد المسيح تنطبق عليها، "اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لِأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلَكِنْ مَتَى وَلَدَتِ ٱلطِّفْلَ لَا تَعُودُ تَذْكُرُ ٱلشِّدَّةَ لِسَبَبِ ٱلْفَرَحِ، لِأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي ٱلْعَالَمِ" (يوحنا ١٦: ٢١).

  •  لماذا الأنين والألم؟

يصوِّر بولس الرسول في عدد ٢٢ الخليقة وكأنّها امرأة تئِنّ وتتمخّض. وفي عدد ٢٣، يؤكِّد بولس أنّ الّذين لهم عطية الروح القدس، هم أيضًا يئِنّون ويتألّمون. إنّ قصة الكتاب المقدس تبدأ بالله خالق العالم والإنسان في أفضل هيئة، ”حَسَنٌ جدًّا“ (تك ١: ٣١)، دون لعنة، دون ألم، دون شوك ودون حسك. عرف آدمُ اللهَ كُلي السيادة على الخليقة، وكان آدم مفوّضًا من الله ليسود تحت الله [سيادة تابعة] على الخليقة (تكوين ١: ٢٦، ٢٩-٣٠). لكنّنا نقرأ أنّ هذا الوضع لم يستمر. تمرَّد آدم على الله، عصى آدم الله بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر التي حذّره الله أنّه يوم يأكل منها موتًا يموت. وبسقوط آدم، رأس الخليقة، في الخطية، أُخضِعَت الخليقة للبُطل، وفقَدَ آدم سيادته على الخليقة ووعيه بسيادة الله الأعظم. صار آدم ونسله تحت حكم ودينونة الموت (رومية ٥: ١٢-٢١)، وصارت كل الخليقة تحت عبودية الفساد. انتشرت الخطية وساد معها الأنين والألم [والمرض] والموت في كل الخليقة. لذلك، فالسبب الأول لقول بولس أن ”ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى ٱلْآنَ“ (منذ السقوط وإلى الآن) هو عقوبة الله لخطية آدم. نعم، السبب الأهمّ في كلمة الله لآلام وتمخُّض الخليقة، ليس قوة الطبيعة العمياء، وليست الأرواح الشريرة، لكن عقاب الله لخطية آدم.

لكن هناك سببًا آخر مرتبط بأنين الخليقة: خطايانا نحن أيضًا، خطية شعب الله وخطايا الشعوب كلّها، خطيّتك أنت عزيزي القارئ وخطيتي. كثيرًا ما تعطي كلمة الله تشبيهات أنين الخليقة بسبب خطايانا. نقرأ في حبقوق ٢: ١١، أنّ الحجر يصرخ من الحائط شاهدًا على خطية الإنسان. فهل تعرف أنّ حجارة غرفتك تصرخ بسبب خطاياك السرّية والعلنية؟ جعَل هذا التشبيه أحد الوعّاظ يقول: ”إنّ حجارة الكنيسة ستشهد يوم الدينونة على مَن سمعوا رسالة الإنجيل وتجاهلوها!“ وفي ميخا ٦: ١-٢، نرى كيف تشهد الجبال والتلال وأسُس الأرض أنّ للربِ خصومة مع شعبه. في إشعياء ٤٦: ١، الحيوانات تصرخ بسبب الخطية، لأنّ الشعب كان يضع الأصنام على ظهور الحيوانات لينقلها من مكان لآخر. قال كاتب، أنّ كل مرةٍ ينبح فيها كلب، فهو يريد أن يذكِّر الإنسان أنّ العالمَ ساقطٌ بسبب خطاياه! يحدِّثنا أيوب ٣١: ٣٨، أنّ الأرض تصرخ بسبب شرّ الساكنين فيها. وفي لاويين ١٨: ٢٨، يقول الله لشعبه أنّ الأرض تقيّأت الشعوب الوثنية بسبب شرورهم، ويحذّر شعبه من نفس المصير لو استمروا في الخطية.

ولكن الأعظم من كل هذا، عندما صلب اليهود يسوع المسيح، نقرأ عن زلزلة قوية جدًّا في الأرض، وعن ظلمة سحيقة في السماء (متى ٢٧: ٤٥، ٥١). لماذا؟ لأن هناك في الجلجثة كانت الأرض تشهد أعظم الشرور. فليس أَشَرّ من صلب يسوع المسيح البارّ، الله المتجسد. كانت الخليقة تئِنّ وتتمخّض وتشهد أنّ خطية الإنسان، خطيتك وخطيتي، صلَبَت ابن الله. مِن ثَمَّ، فالخليقة تتألّم من عبء خطايانا، من شرور قلوبنا، من الغش، من الكذب، من الخيانة الزوجية، من تجاهُل الله وكلمته، من أصنامنا المادية التي ننفق فيها ولأجلها حياتنا.

عزيزي القارئ، كلُّنا نتألّم في هذه الأيام بسبب الخليقة، لكن كلمة الله تؤكِّد أن الحقيقة هي أنّ آلام الخليقة بسببنا، بسبب عصيانِنا لخالقنا. نعم، مشكلتنا الحقيقية ليست فيروس كورونا، لكن فيروس الخطية. مشكلتنا هي دينونة الله بسبب خطايانا.

لذلك ستبقى رسالة الله الشخصية لكلّ إنسانٍ في وسط ارتفاع صوت أنين الخليقة هي ”ارْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ“ (زك ١: ٣). في لوقا ١٣، عندما جاء قوم يسألون يسوع عن أحداث صعبة في أيامه، مصائب بعضها حصل بسبب أشخاص أشرار أوقعوا شرًّا على آخرين، وأخرى بسبب سقوط أبراج، رُبَّما بسبب زلزلة في الأرض. نقرأ، ”وَكَانَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ ٱلْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ ٱلَّذِينَ خَلَطَ بِيلَاطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ ٱلْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ ٱلْجَلِيلِيِّينَ لِأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هَذَا؟ كَلَّا! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ. أَوْ أُولَئِكَ ٱلثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ٱلَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ ٱلْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ (أولئك الذين ماتوا من كورونا، أوالّذين ماتوا من السيول)، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ ٱلسَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلَّا! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ.“ ولأن كل دارس لكلمة الله يعرف أنّ الله دائمًا ما يرسل رسالة التوبة لشعبِه أولًا قبل باقي الشعوب، فهذه الرسالة بالتأكيد مُوجَّهة للكنيسة أولًا.

فهل قادة الكنيسة نائحون على ضعفِ روحانية شعب الكنيسة؟ هل نشعر بحقيقة كون الكنيسة تُشبه العالم أكثر من كونها شاهدة للعالم عن ملكوت الله؟