قُرب نهاية خدمة يسوع على الأرض، دخل أورشليم، عالمًا أن وجهته هي ليُذبح كالحَمَل. ولمّا لم يبقَ من الأيام سوى أسبوع أو أقل على حياته في جسد الاتضاع، قرر قضاء وقته مع أُناس هم الأقل تأثيرًا في الُمجتمع، ومَن من الملوك أو الحُكَّام كان سيفعل مثله؟!
لنأخذ مثلًا مرشَّحًا رئاسيًّا في الأيام الأخيرة التي تسبق الانتخابات! نجده يسعى لحشد الجهود، عارضًا قضيَّته وساعيًا إلى شرح سبب كونه رئيسًا أفضل من المرشَّح الآخر، نراه مُنفِّذًا حَمَلات سياسية وإعلاميَّة بقدر استطاعته لينضم ويتَّحِد معَّ أقوى الأشخاص، والمجموعات أو الأحزاب، كذا معَّ الرموز المعروفة. فهو يبذل قصارى جهده لإثبات جدارته وقدرته على الحُكم.
لطالما جسَّد يسوع التوجهات الأكثر اختلافًا عن العالم، كما رأينا في "تعاليم التطويبات". يختلف شعب الله تمامًا عن العالم، وها هو ربنا وسيدنا يتبنَّى توجهًا غير تقليدي بالمرة، خاصة في أيامه الأخيرة عندما دخل لتولِّي دوره الملكي.
كان المسيَّا المتنبَّأ عنه منذ زمن طويل قادمًا لاستلام مقاليد حُكمه، كما تنبّأَ عنه زَكريّا. ها هو المسيح القدُّوس القوي، يدخل إلى مدينة لا ترغب في الاعتراف بمُلكَه. حقيقةً، في الأيام القادمة، سوف يبغضونه أكثر كثيرًا لدرجة أنهم سيقضون عليه، أو سيسعون لذلك. سيتَآمَرون مَعًّا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، لكن الله سيضحك أخيرًا. لأنَّ مَن تُوِّجَ في السماء لا يُمكن أن يكون مُهدَّدًا، لأنَّه يمتلِك كلّ السُلطان.
وذات يوم سيأتي "يسوع هذا"، كما يُصَوِّر لنا سفر الرؤيا (19)، عابرًا في بحور من دم ترتفع حتَّى حقويه، ساحقًا بسيفه أعداءه في طريقه. وسيُشِع من عينيه غضب مقدس؛ فيقضي على الخطيَّة.
لكن ذلك اليوم له استعداد. فقبل تنصيب المسيح ملكًا سيجتاز معاناة، وكذا سيُزدرَى به ويُرفَض. أناس عاديون سوف يحتقرون ملك المجد ويهينونه.
وكل مَن يفهم ويتمتع بحس داخلي من العدالة سيصرُخ: "آه هذا غير عادل!! هذا خطأ فادح!"
لكن الله في الجسد لن يكون ذا قوَّة سياسيَّة تقليدية مثل التي نراها في قادتنا.
فبعكس رغبتهم المحمومة في الاستيلاء على العرش، جاء يسوع طواعية إلى أورشليم في أبسط الظروف وأحقر الأوضاع. كان يعلم جيِّدًا أن القوَّة والثروة والحكمة لن تدوم طويلاً. فقط ذبيحته الكفَّاريَّة ستجلب الحياة الأبديَّة، لذا وَضَعَ نفسه إلى أقصى حد.
وبينما تُوضِّح لنا "الأوصاف" و"الوصفات" الثمانية في التطويبات كيف تكون شكل الحياة الُمبارَكة، لن نجد أبدًا نموذجًا أو مِثالًا بشريًّا يُجسِّدها كلها خير من المسيح ذاته. هذه التعاليم ليست مُجرَّد نصائح جيِّدة؛ بل هي تعاليم مُتَجسِّدة في شخص يسوع. في طريق المسيح مُتجهًا نحو الصليب، عاش هذه التعاليم بحياته. لقد كان المسيح مُطوَّبًا ومُبارَكًا في افتقاره، وحَزَنه، ووداعته، وفي جوعه وعطشه للبرّ، وفي رحمته، وفي صنعه للسلام، وفي قبوله الاضطهاد.
لنُركِّز بإيجاز على طريقة تتميم يسوع للتطويبات الأربعة الأولى في حياته، كلٍ على حدة.
التطويبة الأولى: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ" (متَّى 3:5)
لم يدخلْ يسوع أورشليم بضجيج النجاح والإنجاز. ففي أحد الأمثال قارن يسوع بين فريسيّ وآخر مسكين. حيث نظر الفريسيّ للمسكين وصلَّى قائلاً: "اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ هذَا" الرجل المسكين. بينما صلَّى المسكين في هذا المَثل قائلاً: "اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ". يدرك المَسَاكِين بِالرُّوحِ عدم استحقاقهم أيّ شيء، كما يعترفون أيضًا بافتقارهم لأي قوَّة.
عندما دخل يسوع أورشليم لم ينضم إلى الأغنياء أو الأقوياء بل ارتبط "بالفقراء والمساكين". لأنَّه عَلِم أن أولئك الذين في كفاف يعيشون، لديهم دافع أفضل بكثير للتطلُّع نحو الله مقارنة بأولئك الذين يعيشون في بذخ ورفاهية. فعندما اقترب السيّد من عرشه الملكيّ، كان مُحاطًا بالفقراء والمساكين، ليس بنُبلاء مدينة أورشليم.
تأكَّد من فهمك لطريقة ممارسة يسوع هذه التطويبة في حياته. فهو لم ينأى بنفسه عن المَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، وقصص أحد الشعانين الكتابيّة مُشبَّعة بتلك الحقيقة. بالحقّ تَخلَّى المسيح عن كلّ مجده وغناه ليفدي شعبه.
التطويبة الثانية: "طُوبَى لِلْحَزَانَى" (متَّى 4:5)
متى بَكَى يسوع؟
يقينًا ناح يسوع في متَّى 37:23 قائلاً: "يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَكِ لنفسي"، إذ رأى يسوع اختيارات القادة اليهود؛ وعَرِف النهاية الحزينة التي كانت تنتظرهم، دَعَا أهل أورشليم لكي يقبلوه، لكنَّه حَزِن لأنَّه عَلِم أنَّ أورشليم غالبًا ما لم تُرحِّب بالأنبياء فيما مضى ترحيبًا لائقًا، وكذا كانوا يرفضون المسيح.
مرَّة أخرى عِند قبْر لعازر، في هذا النص القصير الذي يحفظه البعض، نظر يسوع إلى حُزن هذه العائلة والكآبة التي خيَّمت عليهم، ثمّ "بَكَى يَسُوعُ". نعم، اختبر يسوع مشاعرنا الإنسانية. نعم، كان رَجُلُ أوْجاعٍ ومُخْتَبِرُ الْحَزَنِ. "بَكَى يَسُوعُ". إلهنا ليس إلهًا جامدًا، من دون مشاعر.
مرَّة أخرى حَزِن يسوع بسبب قرار الشاب الغنيّ، فبعد أن أتى هذا الشاب الرائع إلى المسيح، تحوَّل بعيدًا لأنَّه لم يُرِدْ اتباع يسوع، ممَّا جعل المسيح حزينًا - حزينًا لأنَّ قلب الإنسان لم يلتجئ إلى الله حين انتظرته نعمة عظيمة. ونرى نحيب يسوع على قساوة قلوب البشر وعدم إيمانهم واضحًا جليًّا في دخوله أورشليم.
يضيف سفر العبرانيين تفصيلة أخرى لا تظهر دائمًا في بعض العِظات. وهي تشير إلى ربِّنا وهو يُقدِّم "بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ" (عب 7:5). نعم، حَزن ربُّنا في البستان حُزنًا سحيقًا.
وماذا عن الصليب؟ هناك أنْكَسْر قلبه. يسوع هو "رَجُلُ أَوْجَاعٍ وأَحْزَانٍ" يعرِف أحزاننا إذ اختبرها كلَّها.
التطويبة الثالثة: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ" (متَّى 5:5)
نرى وداعة يسوع بشكل أوضح في أيامه الأخيرة، إذ تخلَّى "الله الابن" عن غِنى السماء: "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ" (2كو 9:8).
مرَّة أخرى، أصْل الوداعة هو التكريس الكامل والخضوع لمشيئة الآب. نرى ذروة خضوع يسوع في استعداده لاجتياز موت الصليب الُمخزي طاعةً لإرادة أبيه. في جثسيماني، صلَّى «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». استجاب الله الآب لصلاة يسوع لكي يخلُص من موت الصليب، ولكن ليس بتمكينه بطريقةٍ ما من الهروب من هذه المحنة. بل كانت استجابة الآب "لصلاة جثسيماني" هي قيامة يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث. خضع يسوع باتضاع لإرادة الآب في هذا الأمر، ونَحَّى جانبًا رغبته الشخصية. "احْتَمَلَ يسوع الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ" مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ" (عب 2:12). كان يسوع مِثل رياضيّ يحتمل ألم التنافس العنيف من أجل فرحة النصر الُمنتظرة. كان فرح يسوع الُمنتظَر هو إتمام عمل الفداء الذي أثمر خلاصنا وكذا ردَّ المجد إلى الآب. هذه هي الوداعة.
هذه الوداعة تثمر لطفًا في أرواح ممارسيها. تنبّأ إشعياء عن المسيح قائلًا: "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ" (إش 3:42). أوشكت القَصَبَة المَرْضُوضَة على الانكسار، وكذا قاربت الفَتِيلَة الخَامِدَة على الانطفاء. هذه الصور تُمثِّل الجموع الُمنهَارة والُمضطهدة الذين يُمكن التغلب عليهم بسهولة من قِبل القوَّة الغاشمة. ومع ذلك، شفى يسوع أمراضهم برحمته حتَّى وسط خطط قادتهم ومؤمراتهم لقتله (متَّى 14:12-21). يُمارِس ابن الإنسان سُلطته ليس بإجبار الآخرين على خدمته لكن بواسطة خدمته هو للآخرين حتى "بَذْل حياته فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مرقس 24:10-45). هو يُريدنا أن نتبعهُ بإظهار الوداعة.
هُناك مِثال جيِّد على صبر يسوع ووداعته قُرب نهاية خدمته الأرضيَّة. عِندما "ثَبَّتَ يسوع وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ"، رفضت قرية سامريَّة استقباله أثناء رحلته. لذا اقترح يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا على يسوع قائلَين: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟»، أجاب يسوع: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى. نرى هُنا اللُطف الُمتجذِّر في التكريس الذي لا يحيد عن فعل مشيئة الآب. كما نرى أيضًا اللُطف الُمتجذِّر في الوعي بالإرساليَّة.
تَظهر وادعة يسوع بوضوحٍ في (متَّى 28:11-30) في قوله: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ."
الوداعة ليست ضعفًا كما يعتقد العالم في مُعظم الأحيان. بل في عالم مِثل عالمنا، ومع قلوب مِثل قلوبنا، تتطلب الوداعة قوَّة روحيَّة. وهذه التطويبة تكاد تكون اقتباساً مباشراً لمزمور 11:37، ولا ننسى أنه في العهد القديم، الوعد بميراث الودعاء "للأرض" كان يعني بكل تأكيد أرض الموعِد.
وإذا لم تكن مقتنعًا بوداعة يسوع بعد، تأمل (في 6:2-8) "يسوع الَّذِي كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ... وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ". كانت وداعة المسيح مرئيَّة بوضوح اثناء مسيرته نحو الصليب.
التطويبة الرابعة: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ" (متَّى 6:5)
قال السيّد في وقتٍ مُبَكِّر من خدمته: "غَيْرَةُ بَيْت أبي أَكَلَتْنِي". اهتم يسوع "بعمل أبيه السماوي" منذ وقت صباه، يظهر هذا في رده على والديه، "أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟"(لو 49:2). كذا ظهر أيضًا في تعامله معَّ إغراء إبليس، حيث أجاب يسوع بأنَّ نفسه قد تغذَّت وشبعت: "لكن لَيْسَ على الْخُبْزِ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ".
أحبَّ يسوع كلمة الله وبرَّه. وكان يتواجد في المجمع كلّ سبت لأنَّه اليوم المُخصَّص للربِّ، فهو لم يُفكِّر في الأهمية الموضوعة على الأولويات الأخرى ولا رآها أكثر أهمية من يوم الربِّ، بل تاق يسوع لليوم الذي سيظهرُ فيه برُّ الله كاملًا. وكان طعامه "أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي". وبدلاً من الاستحواذ على المجد أو الشُهرة، عندما دخل يسوع أورشليم في أحد الشعانين، كانت شهيته لبرِّ الله واضحة تمامًا.
وضع ربُّنا نموذجًا للاعتماد الخالص الكامل على الله الذي وضع يسوع لنا مقاييسه في التطويبات الأربعة الأولى.
لم يُعلِّمنا يسوع هذه التطويبات فحسب، بل عاشهم من أجلنا أيضًا.
تمت الترجمة والنشر بالاتفاق مع موقع "Place of truth" ، ويمكنكم قراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية بالضغط على العنوان Jesus Fulfills the Beatitudes