يقرأ الكثير من الناس تعاليم المسيح المجيدة في الموعظة على الجبل منبهرين بالمعيار الأخلاقي المتسامي الفائق لكل معيار وضعه آخر على وجه الأرض، ثم يظن هؤلاء أن الموعظة على الجبل هي سلم من الوصايا يجب على كل إنسان محاولة الصعود عليه إذا أراد أن يكون مقبولاً لدى الله شخصًا بارًّا وصالحًا مستحقًا المثول أمام القدير.
قد تكون العبارة التالية لسان حال معتنقي هذا السبيل:
"سوف أجوع وأعطش لله ولحياة الصلاح والبِّر، لكي أكون مستحقًا أن يُشبعني الله من الخير. سوف أسلك مُظهرًا الرحمة الوافرة بقدر استطاعتي لجميع الناس، وعندئذ سيرحمني الله.سأحفظ السلام باذلًا قصارى جهدي لصنعه بين الناس، لعلي أبلغ إلى مكانة أحد أبناء الملكوت".
طريقة التفكير هذه بشكل عام، وفي قراءة الموعظة على الجبل بشكل خاص، منتشرة لدرجة أن بعض غير المسيحيين أو المسيحيين الاسميين يمتدحون المعيار الأخلاقي في الموعظة على الجبل ظانين أنهم قادرون، بالتدريب الكافي على ضبط النفس والتشديد على قوة الإرادة البشرية في ترويض الشهوات والانفعالات، على الامتثال (على الأقل بدرجة ما) مع حياة توافق هذا المعيار الأخلاقي السامي!
لكن في الحقيقة هذا الفهم ليس خطأ فحسب، بل ينم عن عدم فهم للموعظة على الجبل ولا لواقعك البشري. وسأكتفي بعرض ثلاثة أسباب!
أولًا، إذا كان المعيار الأخلاقي للموعظة على الجبل هو ما يجعلك مقبولاً لدى الله، فيكفيك تأمل حياتك بالأمس لتتيقن أنك قد فشلت في السلوك وفق هذا المعيار، وعليه، أنت مرفوض من الله بحسب هذا المعيار.
لنأخذ مثالًا، فكِّر في هذه العبارة الواحدة من الموعظة على الجبل: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ" (مت ٥: ٨)، وكن صادقًا مع نفسك إذا ما حييت للحظة واحدة الأسبوع الماضي حياة تتطابق بالكامل مع هذا المعيار. هل حقًا ترى قلبك نقيًا بالتمام؟ هل حقًا تظنه يخلو من كل شهوة، وكل حسد، وكل غضب باطل، وكل كراهية؟!!
ثانيًا، لم تُعطَ أن الموعظة على الجبل لأناس غير مؤمنين لتساعدهم للاقتراب لله، بل أعطيت للتلاميذ المؤمنين بالمسيح الذين تغيرت قلوبهم بالفعل بنعمة الله وقوته.
هذا ما نقرأه في متى ٥: ١-٢أ، "فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلَامِيذُهُ. فَفَتَحَ فَاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا..". كان هدف الموعظة على الجبل إظهار نوعية الحياة الجديدة التي يمنحها الله للتلاميذ بقبولهم شخص يسوع المسيح.
ثالثًا، أحد أهم الأدلة أن هذه العظة لا تقول لك: "افعل هذه الأمور فيقبلك الله!"،
بل: "لقد غيرك الله بعمل روح الله وأصبحت تلميذًا للمسيح لتحيا العظة على الجبل بقوة عمل الله"، هو أن أول تطويب أو أول مُباركة هي لأناس "مَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ"! فالمسيح لم يطوِّب المقتدرين في ذواتهم، ولم يبارك أصحاب الصلوات والأصوام الكثيرة، ولم يؤكد سعادة من يعطون الزكاة والعشور بكثرة ويخدمون الآخرين بكل قوتهم، ولم يَعِد بقبول الله للأغنياء روحيًا في أعين أنفسهم. لكن، على النقيض تمامًا، بارك المساكين، وطوَّب الشاعرين بفقرهم الروحي الشديد، وأكَّد على سعادة الآتين لله بأيدٍ فارغة طالبين رحمته ومتكلين فقط على هذه الرحمة لقبولهم.
في الحقيقة كان المسيح يردد صدى ما قاله الله على فم النبي إشعياء،
"لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ ٱلْأَبَدِ، ٱلْقُدُّوسُ ٱسْمُهُ: «فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلْمُرْتَفِعِ ٱلْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ ٱلْمُنْسَحِقِ وَٱلْمُتَوَاضِعِ ٱلرُّوحِ، لِأُحْيِيَ رُوحَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ، وَلِأُحْيِيَ قَلْبَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ." (إش ٥٧: ١٥).
يصف إشعياء هؤلاء المساكين والمنسحقين بأنهم هم من يرتعدون ويخضعون برهبة وفرح وحب عندما يسمعون كلمة الله (إش ٦٦: ٢). كما يؤكد داود أن الله لا يرضى بذبائح وتقدمات كثيرة من قلب متصلف وغير منكسر أمامه، لكن، "ذَبَائِحُ ٱللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا ٱللهُ لَا تَحْتَقِرُهُ" (مزمور ٥١: ١٧).
أخيرًا، تذكّر أن المسيح ذهب باستمرار للمنبوذين المنسحقين وقُبِل منهم، ورُفِض من الفريسيين الأبرار في ذواتهم.
كان المسيح يذهب للأبرص المطرود من المدينة لأنه نجس، وللأعمى منذ ولادته الذي ظنه الناس معاقَبًا ومُبتَلىً بالعمى، ولجابي الضرائب المرفوض من المجتمع لأنه خائن، وللزانية المحتَقرة من الجميع، وللص المصلوب الذي عاش عمره سارقًا لكنه أدرك استحقاقه العقوبة وعَلِم حقيقة بِرّ المسيح. هؤلاء لما أتى إليهم المسيح، أتوه منسحقي الروح، وتغيرت حياتهم وصار لهم ملكوت السماوات.
نعم، إن كل قصص البشائر تعلمنا هذه الحقيقة: طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لِأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ!