"بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».
وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعًا مَمْلُوًّا خَلًّا، فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ."
(يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩)
واحدة من الكلمات السَّبْعِ التي نطق بها يسوعُ على الصليب «أَنَا عَطْشَانُ». ولكن كيف لنَهرٍ رَوَى العِطَاش أن يصرخ «أَنَا عَطْشَانُ»؟
هذا موضوع مقالنا! لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا ننظر سريعًا إلى سياق هذا القول المجيد.
تتميم المكتوب:
كثيرًا ما نتذكَّر آلامَ الربِّ يسوع البشعة وقت الصلب، لكن كَتبة الأناجيل ولا سِيَّما يوحنَّا اِهتَمُّوا بالتركيز في رواية الصَّلب على سيادةِ الله وسيادة المسيح شخصيًّا على كلِّ الأحداث. نرى أحَدَ مظاهر هذه السيادة هنا في تحقيق النبوات.
”بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ“ رأى يسوعُ كلَّ شيءٍ قد تمَّ بحسب الكُتب، عدا شيئًا واحدًا لم يتمّ بعد، "فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ»." نعم، لم يكُن هناك أيُّ شيءٍ صدفةً في حياةِ يسوعَ، ولم يُفَاجَأْ اللهُ بأيِّ حدثٍ في موتِ المسيح. كان الربُّ يسوع يدير الأحداثَ بطريقة فعَّالة وقت آلامه، وصراخه «أَنَا عَطْشَانُ» كان أحد الأمور التي قالها ”لكَي يتِمَّ الكِتَابُ“. المكتوب هنا هو إشارة لمزمور ٦٩: ٢١ب، ”...، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا.“
لماذا لم يشربْ المسيحُ في المرَّة الأولى وشَرِبَ في المرَّة الثانية؟
نقرأ في مَرقُس ١٥: ٢٣ أنّه وهو في طريقِه للصلب ”أَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ“. ما الَّذي قُدِّم له في المرَّة الأولى؟ ”خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرٍّ“. كان هذا مُسكِّنًا وهدفه تهدئة الآلام، لذا رفضه يسوعُ إذ كان عازِمًا على شُربِ الكأس التي جهَّزها الآبُ له بالكامل. أمَّا على الصليب (هنا في يوحنَّا ١٠: ٢٨) فما أُعطِي له كان ”خَلًّا“ يهدف إلى إطالة الألم إذ إنَّه يُطيل الحياةَ فتكثُر الآلامُ.
بالإضافة لذلك، إنْ قَبِلنا الترتيبَ التقليدي لكلمات المسيح على الصليب [انظر الحاشية]١، فإنَّنا نستطيع استنتاج إجابة أُخرى عن هذا السؤال. جاء قولُ المسيح «أَنَا عَطْشَانُ» كالقول الخامس على الصليب، ويأتي مُباشرةً بعد صرخة التَّركِ ”... إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟“ (متَّى ٢٧: ٤٦؛ مَرقُس ١٥: ٣٤). في صرخةِ التَّركِ كان المسيح يذوق آلامَ الجحيم بدلًا من شعبِه، كان يشرب كأسَ الغضبِ التي يستحُّقها الخطاةُ. وبهذا ذاقَ المسيحُ آلامَ الجحيمِ قبل أن يموت الموتَ الجسديَّ النهائي الَّذي حدثَ عندما أسلمَ الروحَ (يوحنَّا ١٩: ٣٠). [فكُلُّ إنسانٍ يموت الموتَ الأوَّل – الَّذي هو انفصال الجسد عن الروح – وبعدها إنْ كان شرِّيرًا يموت الموتَ الثاني – الذي هو عذاب الجحيم تحت غضب الله إلى الأبد. أمَّا المسيح فقد ذاق الموتَ الثاني أوَّلًا – إذ كان يشرب كأسَ الغضبِ ويذوق الجحيم بدلًا من شعبِه – وبعدها مات الموتَ الأوَّل – إذ أسلم الروحَ وانفصل جسدُه البشري عن روحِه البشرية]. وهكذا فقَبْل أن يذوقَ المسيحُ كأسَ دينونةِ الله، رفضَ أن يشربَ الخمرَ الممزوج بالمُرِّ لكي يأخذ كلَّ الألمِ دون تخفيفٍ. ولكن بعدما انتهى الألمُ الأعظم، ألم تذوُّقه لكأس غضب الله، كان على استعدادٍ أن يشربَ الخلَّ ليُطيل ألمَ الجسد إلى أن يُسلِّم جسدَه البشريَّ وروحَه البشرية بالكامل لله.
ما المقصود من صرخة ”أنا عطشان“؟
إنّ قَولَ المسيح «أَنَا عَطْشَانُ» له معنًى طبيعي. فأيُّ رجلٍ يتألَّم وينزف وهو مُعلَّقٌ في الحرِّ الشديد في الشرق الأوسط، مِن المتوقَّع أن يُصابَ بجفافٍ، فعطشه هذا كان جُزءًا من التَّعذيبِ الَّذي وقعَ عليه!
لكن عند دراسةِ إنجيل يوحنَّا نستطيع استنتاج أنّ قَولَ المسيح «أَنَا عَطْشَانُ» له معنًى روحي مزدوج:
أوَّلًا، هناك معنى يخصُّ المسيح بشكل شخصي. فالمسيح الَّذي للتوِّ قد ذاقَ آلامَ التَّركِ مِن الله، يعطش إلى الشركة الحميمية مع الآب. وكأنّ لسانَ حالِه: يا الله الآب ”... عطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلَا مَاءٍ، لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ. كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ“ (مزمور ٦٣: ١ب، ٢). كان المسيح يشتاق إلى الشركة المجيدة مع الله ولذا صرخَ أنا عطشان. كالله المُتجسِّد (وهو الآن في قِمَّة حالة الاتِّضاع) كان يشتاق إلى أن يتمجَّد مرَّةً أخرى ويدخل إلى حالة المجدِ (يوحنا ١٧: ٥).
ثانيًا، هناك معنًى روحي آخر مُرتبِط باتِّحاد المسيح بشعبِه العِطاش. فالمسيح كان عَطشانَ لأنّه اتَّحَد بمَن هُم عِطَاشٌ من شعبِه. كان عطشانَ لكي يُروِي عطشَنا! فما أمجدَ هذه الصورة كصورةٍ للإنجيل. أخذ المسيحُ مكانَنا، لكي يُعطينا مكانه؛ افتقرَ لكي يُغنِينا، عَطِشَ لكي يُروِينا.
تذكَّر في يوحنَّا ٧: ٣٧، ٣٨ نقرأ، ”وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلْأَخِيرِ ٱلْعَظِيمِ مِنَ ٱلْعِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى قَائِلًا: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ».“ وكذلك في يوحنَّا ٤: ١٣، ١٤، في حديث المسيح مع السامرية نقرأ، ”أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلْأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.“
وهُنا في صليبِ الجلجثة نجد يسوعَ ينبوع الماء الحيِّ مُتَّحِدًا بشعبِه العَطِش لكي يرفعَهم فيشربوا من المياه الحيَّة. عَطِش فصارَ نهرًا ”نَهْرٌ سَوَاقِيهِ تُفَرِّحُ مَدِينَةَ ٱللهِ، مَقْدِسَ مَسَاكِنِ ٱلْعَلِيِّ.“ (مزمور ٤٦: ٤). رُبَّما ظنَّ البعضُ أنّ هذا النَّهرَ المُعلَّقَ على خشبةٍ صارخًا «أَنَا عَطْشَانُ» هو نهرٌ قد جفَّ، إلّا أنّه كان على وشكِ أن ينفجر بمياهِ حياةٍ تنبع حياةً أبدية لكثيرين. لذا قصدَ يوحنَّا ذِكرَ حقيقةِ جنبِه الَّذي كان على وشكِ أن يُطعَن فيخرج منه دمٌ وماءٌ (ع. ٣٤): دمٌ وماءٌ يكفيان لتطهير الخطاةِ مِن كُلِّ نجاستِهم ولإشباع نفوس العِطاش إلى الأبد. لا لم يجفّ النَّهرُ المصلوب، بل تدفَّقَ وسيتدفَّقُ إلى الأبد!
تتركنا صرخةُ المسيح هذه لنسأل أنفسَنا، هل اِتَّحَدْنا بالَّذي يُروِي عطشَنا؟ وهل نحن عِطاشٌ إلى وقتٍ للشركة العميقة مع الله؟ هل نمرُّ بأوقاتِ جفافٍ في الشركةِ مع مَن تُحِبُّه نفوسُنا؟ لنرجع اليوم ونتذكَّر أنّ الفادي يسوع عَطِش ليُروِينا، افتقرَ ليُغنينا، اتَّضع ليرفَعَنا. لنرفع عيونَنا وننظر إليه لننتعش في طريق سياحتِنا للمدينة السماوية. لننظر إلى الجنب المطعون ولنسمع صوتَ الفادي ينادي بالروح، ”... وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا.“ (رؤ ٢٢: ١٧).
١ اقترح بعضُ اللاهوتيِّين (قاموا بتنسيق روايات الإنجيل) الترتيب الزمني التالي للجُمَل السَّبْعِ التي قالها المسيح على الصليب:
(١) ”«يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».“ (لوقا ٢٣: ٣٤). (٢) ”فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ».“ (لوقا ٢٣: ٤٣؛ لاحظ هذه وقائد المئة – مرقس ١٥: ٣٩ استجابة للصلاة ١) (٣) ”«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ»“، ”«هُوَذَا أُمُّكَ».“ (يوحنا ١٩: ٢٦، ٢٧). (٤) ”إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟“ (متَّى ٢٧: ٤٦؛ مرقس ١٥: ٣٤؛ راجع يوحنا ٨: ٢٩- فكرة طرده من محضر الله مثل خُروج آدم، سبي الشعب من الأرض؛ لكن يجب عدم التحدُّث عن انفصالٍ في الثالوث) (٥) ”أَنَا عَطْشَانُ“ (يوحنا ١٩: ٢٨). (٦) ”قَدْ أُكْمِلَ“ (يوحنا ١٩: ٣٠ أ). (٧) ”«يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ.“ (لوقا ٢٣: ٤٦).