توضيح الواضح
قد يبدو الشروع في العثور على "رسالة الإنجيل" في إنجيل يوحنَّا بمثابة تحدِّيًا للعثور على أي جبل في "صورة" مليئة بجبال الألب السويسريَّة، يُعد هذا توضيح للواضح (أي أنه أمر سهل للغاية). مع ذلك، هناك فرق كبير بين حَمل "كُتيِّب السفر" في يدك ووقوفك فعليًّا عند سفح جبال الألب. إنَّه الفرق بين مُجرَّد التفكير في الأفكار المُمتعة والدهشة التي تجتاح الروح وتخلِبُ الألباب؛ بين الخيال الفضولي والتعجُّب المليء بالرهبة؛ بين دراسة الأمر جيِّدًا نظريًا، والذهول الفعلي الذي يفقدُ المرء توازنه (كما يُقال بالعاميَّة، رُكبه تسيب من الدهشة). لقد كُتِبَ إنجيل يوحنَّا ليس فقط ليُعطِي معلومات لأذهاننا، لكن ليُشعِل قلوبنا أيضًا.
لا تُفكِّر في إنجيل يوحنَّا باعتباره كِتابًا لكن باعتباره وجِهةً. حيث يُعد يوحنَّا المُرشِد السياحي "لجبال الألب" في الإنجيل. فهو يقول لنا ولقرَّائه، "عليكَ أن ترى يسوع لأجل نفسك. هناك الكثير عن يسوع، وعمَّا فعله لأجلك، أكثر ممَّا يُمكنك أن تتخيَّل أو حتَّى ترجوا".
في الواقع، لم يَكتب يوحنَّا إنجيله لينقل فقط حقائق جديرة بالثقة حدثت في الماضي (بالرغم أنَّه نقلَ تلك الحقائق بالفعل)، لكن ليُحوِّل تلك الحقائق المُجرَّدة في الماضي لتمجيد الله في الحاضر (وهذا ما يفعله). فبينما نتقابل مع يسوع في النص، يتوقَّعُ يوحنَّا (على مثال المرأة السامريَّة التي يُشاركنا قِصَّتها) أن نرد قائلين: "هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟" (يوحنَّا ٤: ٢٩). إنَّ رؤية يسوع في إنجيل يوحنَّا يعني اكتشاف المسيح، مما ينتجُ عنها، تغيير إلى الأبد.
يتحدَّث يوحنَّا مِن لقاء شخصيِّ مُباشر مع يسوع. إنه لا يخبرنا فقط عن الشخص الذي جاء من "حِضْنِ الآبِ" (يوحنَّا ١: ١٨)؛ بل كتبَ بصفته الشخص الذي شعرَ بأنَّه قريب كفاية من يسوع، لدرجة أنَّه أراح رأسه على حضن يسوع (يوحنَّا ١٣: ٢٣). لقد أراد هذا التلميذ الحبيب (يوحنَّا ٢٠: ٢٠) أن نكتشف ما اكتشفه -فمِنْ مِلْئِ يسوع نأخذُ، "نِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (يوحنَّا ١: ١٦).
من المُقدِّمة إلى الخاتمة، أهتم يوحنَّا بالإجابة عن سؤالين أساسيين: "من هو يسوع؟" "وما الأمر الذي جاءَ يسوع لتحقيقه في هذا العالم؟" يُوجِّهُ يوحنَّا أعيننا على يسوع نفسه، فهو تجسيدٌ للإنجيل. بدأَ يوحنَّا إنجيله مُعلِنًا عن قدوم قِصَّة الخلق الجديدة -وَاضِعًا يسوع باعتباره الشخصيَّة الرئيسيَّة، مركز الحكاية بأكملها.
على عكس الكُتَّاب الآخرين للأناجيل الثلاثة (متَّى ومَرقُس ولوقا)، لم يكتب يوحنَّا إنجيله بناءً على ترتيبِ الأحداث بحسبِ الترتيبِ الزمنيِ الدقيق. لكنه سجَّل الأحداث بشكل انتقائي واستراتيجي. في الواقع، بينما يُركِّز كُتَّاب الأناجيل الأربعة رواياتهم الإنجيليَّة بشكل نهائي وأساسي على موت وقيامة يسوع، ينفقُ يوحنَّا 40٪ كاملة من روايته عن الأسبوع السابق للصليب -وهو الأسبوع الأكثر أهميَّة في حياة ربَّنا والتاريخ البشري (يوحنَّا 12: 1- 20: 25). فكلُّ ما يخبرنا به يوحنَّا عن يسوع يقودنا إلى صليبه وقبره الفارغ -أي إلى موتهِ البَدَليِّ وقيامته المجيدة.
ليس علينا أن نُخمِّن غرض وهدف يوحنَّا من كتابة إنجيله. حيث يخبرنا يوحنَّا نفسه أنه اختار "قِصَّص وآيات" مُحدَّدة: "لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يوحنَّا 20: 30-31).
من هو يسوع؟ إنه المَسيَّا الموعود به. لماذا جاءَ؟ جاءَ يسوع ليمنحنا الحياة -الحياة الأفضل،
والحياة الأبدية، وحياة "الدهر الآتي" (راجع، لوقا 18 :30؛ عبرانيين 6: 5). إنَّ إنجيل نعمة الله هو أكثر بكثير من مُجرَّد قِصَّة عن الحياة بعد المَوت. إنَّه أيضًا قِصَّة عن الحياة قَبل المَوت -فبواسطة موت يسوع وقيامته وصلَ ملكوت الله بالفعل وبه تم استرداد "المخلوقات والخليقة الساقطة" إلى علاقتها الصحيحة بِرَبِّ الحياة. وذات يوم سيصلُ هذا الملكوت إلى الامتلاء، وسيقضي على كلِّ ما تبقَّى من الخطيَّة والحزن. مع يوحنَّا، سوف نكتشف أننا لا نحتاج أي شيء آخر أفضل من الإنجيل لتتغيَّر حياتنا، بل نحتاجُ فقط للمزيد مِن نفس الإنجيل.