”إِذْ أُخْضِعَتِ ٱلْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ -لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِي أَخْضَعَهَا- عَلَى ٱلرَّجَاءِ.“ (رومية 8: 20)
يجسِّد بولس الخليقة في قوله ”ليس طوعًا“، وكأنّها إنسانٌ خضع وليس بإرادته. ويؤكِّد أنّ اللهَ هو الذي أخضعها للبُطل، بسبب خطية الإنسان. لأن الله هو الذي أخضع الخليقة للبُطل، قد أُخضِعَت على رجاء. وهذا مُفرِح! فلو كان إنسان أو شيطان هو الذي أخضع الخليقة، أو هو المُتحكِّم الرئيسي في الخليقة، لكان هذا الخضوع دون رجاء. بسبب تمرُّد الإنسان، كان يجب أن يُفنى الإنسان تمامًا، وتُدَمَّر الخليقة كلها، دون أيّ رجاء. لكن الله في رحمته، أخضع الخليقة للبُطل، وفي نفس الوقت أبقى رحمته بأشكال متنوِّعة. هو يشرق شمسه على الأشرار والأبرار. فكل نَفَسٍ يأخذه الشرير في الحياة، هو رحمة ونعمة من الله. كذلك، إحدى هذه الطرق التي بها يرحم الله الخليقة، هي أنّ الخليقة كلها مثل المرأة التي تتألّم ولها رجاء يشجّعها على الصبر. رجاء أن تنتهي الآلام. رجاء أن يكون هناك سماء جديدة وأرض جديدة يسكن فيها أبناء الله في برّ وقداسة ويرعون الخليقة مرة أخرى بحكمة. هذا الرجاء نبعه سيادة الله على الخليقة.
كان الله، ولا يزال، وسيظلّ هو السيد والمُتحكِّم الأول في كل ما يدور في خليقته. تؤكِّد الكلمة أنّ الله لا يصنع شرًّا أخلاقيًا (يعقوب ١: ١٣-١٤، ١يوحنا ١: ٥)، لكنّه هو المتحكِّم الأول ووحده الذي عيَّن كل أحداث خليقته، في سلامها وفي اضطرابها ”هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَٱلرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟“ (عاموس ٣: ٩، اُنظر إشعياء ٤٥: ٧). لذلك، أظهر لنا الله في يسوع المسيح حقيقتين: أنّ الله كُليّ السيادة، وأن السيادة كانت مفوّضة لآدم قبل أن يخسرها في السقوط. هذا ما رأيناه في مشهد تهدئة المسيح يسوع -الله الإنسان- العاصفةَ والبحر (مرقس ٤: ٣٥-٤١).
كان المسيح نائمًا على وسادة في السفينة حينما هبّت رياح شديدة، عواصف، أمطار، هيجان بحر عنيف، أمواج تضرب، حتى أنّ السفينة كادت تنقلب ممتلئة بالماء. والتلاميذ، من ذُعرهم ممّا يحدث في الخليقة حولهم، يصرخون للمسيح، ”يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟“. ثمّ نقرأ أن المسيح قام ”...وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ٱسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لَا إِيمَانَ لَكُمْ؟». فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضًا وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!“
هل ترى عزيزي القارئ الفارق بين ”الخوف الأول والثاني؟“ - ”ما بالكم خائفين“ (ع. ٤٠)، ”وبعدها فخافوا خوفًا عظيمًا“ (ع. ٤١). كان الخوف الأول من البحار والأنهار، من الطبيعة وأنينها، الناتج عن فقدان الإنسان السيادة المفوّضة من الله، ومن فقدان الإنسان وعيه بسلطان الله الأعلى على الخليقة. أمّا الخوف الثاني، فكان خوفًا أعظم، بل وأقدس وأطهر وأمجد؛ بسبب اكتشاف هذا الذي يستطيع أن يسود على كل الطبيعة بصفته رب الخليقة بالتأكيد، لكن بصفته آدم الثاني أيضًا. لقد سقط آدم الأول في الخطية ففَقَدَ السيادة المفوّضة على الخليقة ووعيه بسيادة الخالق. أمّا آدم الثاني، يسوع المسيح له كل المجد، فاستردّ السيادة على كل الخليقة. وكل مَن يعرفه ويرى سيادته سيتعجَّب: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضًا وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!».
إنّ كل نسمة من الرياح التي تعبر وتشتمّها مُستمتعًا، وكل رياح تجعلنا نضطرب، هي بالكامل تحت سيادة يسوع المسيح. هو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته. حامل الفيروسات، والرياح، والأمطار، وكل الكواكب. كلها تطيعه!
قال أحد اللاهوتيين: ”لا يُوجَد سنتيميتر في كل الخليقة لا يُشير المسيحُ إليه ويقول هذا مِلكٌ لي!“ هذا تحت سيادتي. المسيح هو الله الذي به نحيا ونتحرّك ونُوجَد. هو الله الظاهر في الجسد الذي جاء ليرفع الخطية والموت. جاء ليُعيد وعي الإنسان بالله ذي السيادة على الكل. وليخلق من كل مَن يؤمن به ”أبناء الله“، مَن تنتظرهم الخليقة وتترقّب اليوم الذي فيه سيتمجّدون مرة أخرى مع آدم الثاني: لِأَنَّ ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ ٱسْتِعْلَانَ أَبْنَاءِ ٱللهِ.
لذلك وبينما نأخذ كل حذر في وقت الأوبئة، نفكِّر ونستخدم الحكمة لنحمي نفوسنا وبيوتنا وعائلاتنا وأقاربنا كنفوسنا، نعلم يقينًا أنّ الكل يخضع للمسيح يسوع، ونثق أنه لا يمكن أن تسقط شعرة واحدة من رؤوسنا دون إذن المسيح. نلقي كل أحمالنا، بل كل حياتنا، على المسيح. كما نتعلّم، مع الفتية الثلاثة، أنّه إنْ أنقذنا من النار والفيروس، له المجد والسلطان، وإنْ لم يُنقذنا وقرّر أن يأخذنا لحضنه، له المجد. لِأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ (رومية ١٤: ٧-٨). إنّ للمسيحي الحقيقي في المسيح سلامًا ورجاءً في الحياة والموت.
قوة الرجاء وسط الأنين والألم في الخليقة
يشرح ﭼون كالڨن Calvin الصورة التشخيصية للخليقة -”ٱنْتِظَارَ ٱلْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ“- على أنّها (أي الخليقة)، بكل ما تمرّ به من أنين، تقدّم لنا مثالًا في الصبر، إذ أنها تتوقّع بصبر نافد أن ترى أبناء الله في حالة المجد التي تنتظرهم. الخليقة تتوقّع أن ترى هؤلاء الّذين انتقلوا من الموت للحياة. هؤلاء الّذين نالوا نعمة الخلاص والفداء والتبنِّي إذ صاروا أبناء لله. ولكن أبناء الله يتوقّعون أيضًا. أبناء الله هم مَن قد نالوا التبرير (رو ٨: ١)، والتبنِّي في الماضي بعمل الروح القدس (رو ٨: ١٥). ولكن كما تتوقّع الخليقة ظهور مجد أبناء الله، يتوقّع أبناء الله ظهور أخيهم البكر يسوع المسيح. فأبناء الله ”مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ،“ لأنّه حينما يأتي سيعطيهم اكتمال هذا التبنِّي، أي فداء أجسادهم (رو ٨: ٢٣).
أبناء الله في أوقات الأنين التي نمرّ بها يتوجّهون بكل قلوبهم ويسكبونها في الصلاة، طالبين من الله أن يعين ضعفهم ويعلّمهم أن يصلّوا (رو ٨: ٢٦-٢٧). بالتأكيد يطلبون أن يُرفَع هذا الفيروس من وسط العالم، لكن لديهم طلبة أهم هي أن يستخدم الله هذا الوقت ليشهدوا عن حقيقة الفيروس الأعظم، الخطية، والطبيب الوحيد لهذا الفيروس، يسوع المسيح. فهم يعرفون أن حتى الفيروس يعمل للخير للذين يحبّون الله (رو ٨: ٢٨). أبناء الله رجاؤهم أعظم من أن يرفع الله هذا الفيروس حاليًّا. فهُم يتوقّعون يومًا فيه يرفع الله كل مرض، وكل فيروس، وكل ألم، ويمسح كل دمعة. يتوقّعون سماءً جديدة وأرضًا جديدة. فأعظم رجاء للمؤمن ليس في شيءٍ يحدث في الحاضر، إنّما رجاؤه ثابت في المستقبل. بل إنّ أعظم رجاء، ليس فقط الانتهاء من فيروس كورونا، وآلام هذا الدهر، لكن الانتهاء من الخطية. فأكثر شيء يؤلِم المؤمن الحقيقي هو فيروس الخطية الساكن فيه الذي يدفعه كل يوم إلى حرب شرسة، وهو يشتاق إلى اليوم الذي فيه سيكون بلا خطية ويرى المسيح بالعيان. ١يوحنا ٣: ٢ أَيُّهَا ٱلْأَحِبَّاءُ، ٱلْآنَ نَحْنُ أَوْلَادُ ٱللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لِأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ.
هؤلاء الّذين ”المسيح فيهم رجاء المجد“ (كو ١: ٢٧)، يتمسّكون بهذا الرجاء. وتمسُّكهم بالرجاء يساعدهم في الأوقات التي فيها ينبغي أن يصبروا في الضيقات (رو ٥: ٥). عالمين أن ”ٱلرَّجَاءُ لَا يُخْزِي، لِأَنَّ مَحَبَّةَ ٱللهِ قَدِ ٱنْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُعْطَى لَنَا.“ هذا الرجاء يسندهم، ويجعلهم سندًا بعضهم لبعض، وشهادةً لعالم يتألّم دون رجاء، شهادة عن إله الرجاء القادر أن يملأ أبناءه بكل سُرُورٍ وَسَلَامٍ فِي ٱلْإِيمَانِ، لِتَزْدَادُوا فِي ٱلرَّجَاءِ بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ (رومية ١٥: ١٣).
عزيزي القارئ، الخليقة تئِنّ، والكل يئِنّ، لكن السؤال المهمّ هو، هل تعرف السبب الحقيقي للأنين؟ وهل تعرف الذي يسود على كل أنين؟ وهل تئِنّ على رجاء؟