يجتاز المرء أقسى المشاعر لحظة وقوفه أمام قبر لدفن أحد أحبائه. لا أظن أيًا منَّا نجح في تجنب هذا الموقف، إذ كثيرًا ما ذهبنا للمقابر بعد مراسم الجنازة لدفن من فارقونا. وهو مكان مؤلم يستدعي لذاكرتنا الموت وفراق الأحباء. وكلما كان الشخص عزيزًا، بات الأمر أكثر إيلامًا. لكن دعونا نتأمل حادثة دفن المسيح يسوع وحال أحبائه المتواجدين حوله آنذاك.
*خلفية الحدث
صُلِبَ المسيح في النصف الثاني من يوم الجمعة، أي بين حوالي الساعة التاسعة صباحًا والثالثة بعد الظهر، علمًا بأن حساب اليوم في التقويم اليهودي يبدأ في السادسة مساءً. لذلك، فالسبت بدأ يوم صلب المسيح الساعة السادسة مساءً، ولذا لم تكن للنساء التي تبعن المسيح فرصة ليبتعن حنوطًا ويدَّهِنََ جسد المسيح إكرامًا له قبل دفنه. بل قام يوسف الرامي بمراسم الدفن وغالبًا أدَّاها سريعًا قبل بدء السبت. أمَّا النساء فانتظرن حتى مساء اليوم التالي - بعد انقضاء يوم السبت - وبعدها ذهبن لشراء الحنوط، الأمر الذي يُمثل إحدى عادات إكرام الميت. وإذ لم يكن ذهابهن في الليل لوضع الحنوط ممكنًا، انتظرن حتى الفجر ليذهبن للقبر.
لذلك قررن الذهاب إلى القبر فجر يوم الأحد مع طلوع الشمس وكنَّ يتساءلن عمن يدحرج لهنَّ الحجر حتى يدخلن وهنَّ لا يعرفن بأمر الحراس والختم الموجود على القبر. كان هذا الختم قد وُضع يوم السبت بسبب خوف قادة اليهود من سرقة جسد المسيح. ومع وصول مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومي للقبر فجر يوم الأحد فوجئن بأن الحجر قد دُحرج، وأن المسيح ليس بموجود في القبر، إذ كان قد قام من الأموات!
*حَدَثَ بالفعل!
قصد الله في حكمته أن يوحي لكتبة الأناجيل الأربعة كيما يسجلوا لنا العديد من التفاصيل التي تؤكد مصداقية حادثة القيامة وتاريخيتها. في الواقع، الطريقة التي كُتبت بها الرواية لا يمكن أن تكون بواسطة من أراد تلفيق هذه الرواية.
فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كان مرقس حريصًا في توضيحه لنا حقيقة أن النساء اللاتي كنَّ موجودات في مشهد الصلب (مرقس ١٥: ٣٩-٤١) هنَّ اللاتي تبعن الجسد ليتابعن موضع الدفن ومكان القبر (مرقس ١٥: ٤٧)، وهنَّ اللاتي ذهبن فجر الأحد ليدَّهِنَّ المسيح بالحنوط (مرقس ١٦: ١). لو كانت قصة قيامة المسيح غير حقيقية وأراد التلاميذ تأليف قصة ما حول مُعلِّمَهم، يصبح اختيار النساء كأول شاهدات عن القيامة هو الحماقة بعينها في مجتمع مثل المجتمع اليهودي آنذاك، الذي يرفض شهادة المرأة ويحقِّر من شأنها.
بكلمات أخرى، لِمَ قد يختار التلاميذ وصف حدث تكون فيه النساء أول الشاهدات إن لم يكن هذا هو ما حدث بالفعل؟ السبب الوحيد الذي يدفع كُتَّاب الأناجيل لفعل هذا هو أن هذه حقيقة ما حدث بالفعل.
علاوة على ذلك، فإن وصف التلاميذ لأنفسهم ولشهود القيامة عامة لم يكن وصفًا محمودًا. أي أنهم لم يقدموا أنفسهم بوصفهم شجعانًا، أو ثابتين في الإيمان، أو واثقين في صدق أقوال المسيح بأنه سيقوم من الأموات كما قال لهم في حياته. بل على العكس، غالبيتهم شكُّو حتى بعدما سمعوا رواية القبر الفارغ أو حتى رأوا فراغه بأعينهم.
*شهادة محبطة للغاية!
في قراءتنا للأناجيل، نرى تأكيد المسيح للتلاميذ عدة مرات وفي مواقف كثيرة عن آلامه وموته وقيامته (مرقس ٨: ٣١؛ ٩: ٣١؛ ١٠ :٣٣-٣٤). كانت رسالة المسيح واضحة وصريحة. ربما نقرأ الأناجيل اليوم وخاصة كلام المسيح قبل صلبه، عن موته العتيد وآلامه وقيامته، ونأخذ الأمر ببساطة شديدة ونقول بالطبع نحن نعرف أن هذا هو ما حدث. ولكن كان هذا الكلام بالنسبة للتلاميذ غريبًا حقًا، وأبعد ما يكون عن التصديق. ولعل ما حدث يوم القيامة نفسه يؤكد ذلك.
- لم يكن التلاميذ في لحظات تأهب وانتظار وفرح بالقيامة في صباح يوم الأحد. فالأمر بالنسبة لهم كان قد انتهى بموت المسيح. إذ اختبأ التلاميذ في مكان مغلق بسبب الخوف من اليهود (يوحنا ٢٠: ١٩). نعم، لم يصدِّق التلاميذ ولا أي شخص كلام المسيح عن قيامته بعد الموت. المُثير للدهشة أن أكثر من خاف من تحقُّق كلامه كان القادة اليهود الذين تذكروا هذا الكلام وحاولوا أخذ الحيطة بوضع الختم والحراسة على القبر.
- كان تلميذا عمواس (لوقا ٢٤: ١٩-٢٤) يائسَين بشدة في رحلتهما على الطريق إلى قرية عمواس وعندما سألهما المسيح "مَا هَذَا ٱلْكَلَامُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ...؟" (ع. ١٧)، انظر كيف أجاباه: "كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ" (ع. ٢١). قالا هذا على الرغم من اعترافهما بأنفسهما للمسيح بسماعهما شهادة النساء عن القبر الفارغ. هل يمكن أن نتخيل هذا: المسيح يقول إنه سيقوم في اليوم الثالث والنساء تأتين وتقولن بفراغ القبر، ومازالا يقولان: "كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ"!
- حتى النساء اللاتي كثيرًا ما يُمدحن في هذا الموقف لم تكنَّ ذاهبات للقاء ربًا مُقامًا، بل لتحنيط جثته وإكرامه في دفنه كما ذكرنا. وها هُنَّ عند القبر ليرين منظرًا غير عادي حيث الحجر قد دُحرج وجلس ملاكان. وها ملائكة تقابل النساء وتسأل مريم: لماذا تبكين؟ ثم تطلب من النساء الذهاب للقاء التلاميذ ليُبشِّرنَّهم بحادثة القيامة، ونقرأ في مرقس ١٦: ٨، "لَمْ يَقُلْنَ لِأَحَدٍ شَيْئًا لِأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ!"
- حتى مريم المجدلية - وأغلب الظن أنها لم تلتقِ الملاك في البداية - أسرعت لتخبر التلاميذ عندما رأت الحجر مرفوعًا وقالت "أَخَذُوا ٱلسَّيِّدَ مِنَ ٱلْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ"(يوحنا ٢٠: ١-٢). إذ ظنت أن الجسد قد سُرقَ. وبعد أن ذهب بطرس ويوحنا ليتأكدا، لم يجدا جسد المسيح كما قالت (ع. ٣-١٠). أما هي فظلت واقفةً تبكي، وعندما دخلت القبر لتنظر رأت ملاكَين فسألاها: "يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟"، فلم يتغير ردها بل "قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (ع. ١٣). بعد ذلك، التفتت خلفها لتجد المسيح فظنت أنه البستاني. ويسألها المسيح "يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟" (ع. ١٥)، وأجابت للمرة الثالثة بقولها: "يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ"!!!
تذكّر عزيزي القارئ، كل هذه الحوادث المليئة بالشَّك كانت بعد إقرار المسيح مرارًا وتكرارًا حقيقة موته وقيامته، وبعد رؤية النساء والتلاميذ القبر الفارغ بأعينهم.
للأسف كان موقف التلاميذ مخزيًا وقت القيامة مثلما كان مخزيًا قبلها. تذكر معي آخر لقاءات المسيح مع التلاميذ، مع أقرب الأقربين، وحديثه لهم. لقد هربوا جميعًا! بطرس - تحديدًا - بعدما قطع وعدًا للمسيح بألا ينكره (مرقس ١٤: ٢٩)، نجد آخر لقاء له مع المسيح قبل الصلب هو لحظة نظر السيد إليه بعد إنكاره إياه ثلاث مرات (لوقا ٢٢: ٦١).
لم يكن توما وحده من لم يصدق الكلام عن قيامة المسيح - وإن كان هو أشهر من شك. فقد بقي بعد ظهور المسيح للتلاميذ أسبوعًا غير مصدق لحدث القيامة، حتى نرى المسيح يأتي إليه مبادرًا مستردًا إياه. وإذ تحنن المسيح على توما قال: "هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلَا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا" (يوحنا ٢٠: ٢٧).
هؤلاء كانوا أفضل أتباع المسيح وأخلصَهم، وكم كان مخزيًا موقفهم! والآن لنرى الرسالة التي تركها المسيح مع الملاك. هل قال المسيح: "قل لهؤلاء الضعفاء البلداء عديمي الإيمان أني سوف ألتقيهم في الجليل ولكن عليهم أن يستعدَّوا جيدًا، وبشكل خاص وبِّخ هذا المُنكِر بطرس مُخبرًا إياه بقيامتي؟" لا، لم تكن تلك رسالة المسيح، بل كانت رسالته، كما قال الملاك للنساء: "لَكِنِ ٱذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ" (مرقس ١٦: ٧)، وكأن رسالة المسيح هي: "أنا في انتظاركم!". فقد كان توجُّه المسيح غفرانًا ومصالحة ومبادرة، بل إن الملاك خصَّ بطرس بالذكر تحديدًا حتى لا يقول قائل: "يمكن لأي شخص الإتيان معنا إلا بطرس، لنذهب كلنا ولكن هذا المُنكِر فلا يذهب معنا!"
لم تأتِ بشارة القيامة لأناس واثقين في أنفسهم وذوي إيمان عظيم.لكنها كانت رسالة إلى خائفين، غير مُصدّقين، مُنكرين، مصدومين، بائسين.المسيح قام! المسيح قام!
أمام خطيتنا وجهلنا وإنكارنا وجُبننا وعدم إيماننا تأتي البشارة لتقول لنا: المسيح قام وغلب الموت والخطية والشيطان. لم يُعطِهم المسيح فقط براهين على قيامته، ولكنه أتى إليهم في خزيهم وعدم إيمانهم وحزنهم، أتاهم ليطمئنهم، مصالحًا ومستردًا ومشجعًا إياهم. فنراه يذهب لبطرس وتوما وتلميذي عمواس والمجدلية وكل التلاميذ. أربعين يومًا يظهر لهم ليؤكد لهم أنه قام. يظهر للتلاميذ ليقول لهم: "سَلَامٌ لَكُم". كَمْ كان غفورًا ومحبًا ومستردًا للتلاميذ في أحلك أوقات الشك وعدم الإيمان.
ومازال المسيح المُقام يعاملنا هكذا إلى هذا اليوم. فرسالة القيامة ليست لأناس واثقين في أنفسهم، أشدّاء، بلا خوف أو ضعف، بل رسالة القيامة التي نذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد لنسمعها هي لأناس مثلنا في ضعف وخوف وعدم إيمان. يأتي المسيح إلينا كل يوم في كلمته المقدسة، وبشكل خاص كل يوم أحد في العبادة ليعلن لنا أنه الرب المقام وأنه قد غلب الموت.