التطويبات وإنجيل الملكوت: كلمة أخيرة

على مدار الأسابيع الماضية، اهتمّت "خدمة الصورة" بدراسة التطويبات في اتساق مع رسالة الإنجيل، بل والفكر الكتابي عمومًا، والذي يُحتّم على القارئ الجاد تجنب الفكر الشائع الذي يرى في التطويبات سلّمًا من الوصايا يجب على كل إنسان محاولة الصعود عليه إذا أراد أن يكون مقبولاً لدى الله شخصًا بارًّا وصالحًا مستحقًا المثول أمام القدير.

في هذا المقال، أود أن أقدم دليلًا إضافيًا من خلال إلقاء نظرة واسعة لسياق التطويبات وعِظَة الجبل (متّى ٥-٧) ضمن نسيج بشارة متّى ككل. تمامًا كما يفعل المصور المتمكن عند تقريب وإبعاد زاوية الرؤية Zoom In and Out بهدف الإلمام بتفاصيل متنوعة لنفس الحدث عبر مشهدين متفاوتين في بعدهما وقربهما عن بؤرة الصورة.

 

المشهد الأول: على سفح الجبل

"وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ ٱلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ" (متّى٢٣:٤). بهذه الآية الموجزة افتتح متّى الفقرة السابقة للتطويبات وعظة الجبل ونحن بعد عند السَفحِ. بها لخّص عنصري إنجيل الملكوت الذي بشر به المسيح في الجليل:

(١) التعليم والكرازة ببشارة الملكوت (متّى ٥-٧)

(٢) شفاء المرضى والتحرير (مت٨-٩).

ولمزيد من التيسير على القارئ، عاد متّى وختم الجولة الأولى لخدمة الملكوت بتكرار نفس الآية كما هي، ولكن في نهاية الأصحاح التاسع (راجع متّى ٣٥:٩).

فإذا كنت من مُحبي تناول السندويتشات ذات الحجم الكبير، فإن متّى يقدم لنا وجبة صحية متكاملة Matthean Sandwich. من شأنها لا فقط أن تشبعنا، بل تحمينا من الفهم الاختزالي لإنجيل الملكوت وبالتالي عظة الجبل.

الدرس المُستفاد!

الأهمية المباشرة لسرد خدمة إنجيل الملكوت بهذا الترابط هو التأكيد على ارتباط التعليم الأخلاقي في عظة الجبل بخدمة شفاء المرضى وطرد الشياطين، واللذين شكّلا وجهي العُملة لعمل ابن الإنسان في مجيئه. فهو وحده من له السلطان أن يُعلن غفران الخطايا ويبرهن على ذلك عمليًا بأن يقول للمشلول: "قُمْ وَٱمْشِ" بعد أن يقول: "ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغـْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ"، ليتم المكتوب: "هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا." فالمُعلم والمُحرر الشافي هو هو يسوع ابن الله الذي حُبل به بالروح القدس ونطق الملاك ملخّصًا إرساليته: "وَتَدْعُو ٱسْمَهُ يَسُوعَ، يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متّى ٢:٩،٦؛ ١٧:٨؛ راجع ٢١:١)

 في عبارة موجزة، أي تعليم يقدم التطويبات خاصةً، و عظة الجبل عمومًا على أنها وصايا أخلاقية أو سلم يصل بنا إلى الله يضرب بعرض الحائط السياق الذي قدمه متّى والترابط الذي أظهره في جوانب خدمة إنجيل الملكوت. فهل انقسم المسيح في أذهان البعض لمعمل أخلاقي روحي، ونسوا أو تناسوا أساس خدمته الكفارية لفداء شعبه من خطاياهم؟! حاشا!

والآن، إلى مزيد من الإيضاح في المشهد الثاني، وفيه نبعد عدسة الزووم أكثر لنرى مشهدًا آخر لا يقل روعة عن سابقه...مشهد "عودة الملك الداودي مخلص شعبه" (مت١:١-١٧)

المشهد الثاني: عودة الملك The Return of the King

إذا كانت مثلي، من عشاق سلسلة "ملك الخواتم" ولا سيما الجزء الأخير بعنوان "عودة الملك" أو The Return of the Kings فسيكون من السهل عليك الاستمتاع بمدخل إنجيل متّى، والذي للأسف يهمل الكثير منا قراءته.

باعتباره مجرد تأصيل تاريخي لولادة المسيح من نسل داود، لا أكثر.

لكن الواقع يختلف كثيرًا، فأسلوب متّى العبقري في سرد سجل نسب المسيح في (مت١:١-١٧) ألقى حزمة ضوء كثيفة على الأزمة الكبرى في حياة شعب الله، ألا وهي: "السبي"...اقرأ معي العدد الختامي لسجل نسب المسيح:

"فَجَمِيعُ ٱلْأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، ومن دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى ٱلْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً." (مت١٧:١).

ولكن ما أهمية هذه الآية؟ وما لنا كقراء عرب ومصريين بسبي شعب إسرائيل المتمرد؟

عزيزي القارئ، ليس عبثًا أن يبدأ متّى بشارته بسجل نسب يذخر في عدد ١١، عدد ١٧ بالتركيز على كارثة السبي البابلي، دون التلميح في عدد ١٧ بالذات للعودة من السبي وكإنه لم يكن!

على اعتبار كونها عودة هزيلة وضعيفة مقارنة بتوقعات أنبياء العهد القديم!!!

نعم، عاد الشعب للسُكنى في أرض الموعد، لكنهم كانوا عبيدًا في أرضهم للرومان زمنيًا، والأسواء بما لا يقاس هو تلك العبودية الروحية للخطية، والمتمثلة في انتشار سيطرة إبليس على شعب الله كما يوضح سياق الإنجيل نفسه. واختراقه لدائرة التلاميذ أنفسهم!

يُذكِّر السبي شعب إسرائيل بفشله المتكرر حتى وهو تحت قيادة أعظم ملوكه "داود" في طاعة ناموس الله ومحبة وصاياه المقدسة والعادلة، الأمر الذي انتهي به بعد سلسلة من الملوك المتمردين لفقدان المملكة والسبي. البشير متّى يستحضر هذه الحقيقة بوضوح، حتى أنه يذكر داود، أعظم ملوكهم، هكذا: "وَدَاوُدُ ٱلْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ ٱلَّتِي لأُورِيَّا." (متّى٦:١) أي للتذكرة بأبشع سقطاته وسرّ عدم مفارقة السيف لبيته حتى نهاية حياته.

الدرس المُستفاد!

إن كانت مشكلة الإنسان حقًا هي احتياجه لمعلّم أخلاقي عظيم وشريعة سامية كعِظَة المسيح، لكان من الجائز أن يفكر البعض في التطويبات وعظة الجبل على هذا النحو. لكن التعليم الكتابي واضح جدًا!

حتى داود الذي مسحه الرب بأيدي أعظم أنبياء العهد القديم، صموئيل. كسر شريعة الرب وأهانه، واستمرت حياته رغم التوبة عن تلك الخطية بالذت في سلسلة أحداث درامية مؤلمة.

أما نسله الملكي، فحدث ولا حرج. ازدرى كل منهم بشريعة الله وانحرف من ورائهم الشعب. حتى انتهي بهم الأمر للسبي البابلي سبعين عامًا. تطلّع الأنبياء إرميا، وإشعياء وحزقيال لزمن استرداد لا يغفر فيه الرب خطايا شعبه فقط، بل يختن قلبه ليسكب محبته فيه. تطلعوا لعهدًا جديدًا يقطعه الله مع شعبه ويضمن ألا يتعدوا شريعته مرة أخرى (إرميا ٣١:٣١-٣٤، حزقيال ٢٦:٣٦-٢٧)

نعم، نحن عرب ولسنا إسرائيليين. لكن ما كُتِب عنهم، كُتِب لتعليمنا كوننا مثلهم! بشر مضروبين بجرح الخطية المميت. لنعلم أن احتياجنا لا يمكن أن يكون فقط لشريعة أخلاقية سامية، عجزنا عن الالتزام بها ينتهي بنا كما انتهى بهم قديمًا بمزيد من الاغتراب عن الله.

سبي إسرائيل صورة لحالة التغرب الذي يختبره كل إنسان بعيدًا عن الشركة في محبة الله وطاعته. وتصوير أوّلي لعقابها الأبدي في جحيم لا ينتهي.

مرة أخرى؟ هل علاج مشكلة الإنسان تعليم أخلاقي أسمى؟ أم نحتاج لإنسانية جديدة وقلب جديد؟

عزيزي، الخبر السار هو مجيء ذلك الملك، الذي جاء ليضع حياته فداء شعبه (متّى٢٨:٢٠)، وليقطع العهد الجديد بدم فداءه الذي لا يغفر الخطايا فقط ويعالج أثارها، لكنه ينزع قلب الحَجَر من قلوب المؤمنين به ليجعلهم يسلكون في شريعة الرب بمسرّة قلب رغم سموها اللا متناهي (راجع مت٢٨:٢٦؛ مع حزقيال ٢٦:٣٧-٢٧).

فهل يمكن بعد ذلك أن تختزل التطويبات لتكون سلسلة من التدريبات الروحية لراغبي حياة أخلاقية أفضل، دون الالتفات لرسالة الإنجيل ككُل، ولحتميّة الإيمان بالملك المخلص والراعي المُعلم، ابن الله يسوع؟

لم يُعلّم الرب عظة الجبل فقط ليقنعني بضعفي إزاء سموها الأخلاقي الفائق. الأمر الذي لا ينكره كل مؤمن يدرس تعاليمها بجدية وخشوع صادقين. لكنه علّمها لنحياها رغم سموها، وإدراكنا لصعوبة أن نحياها بنجاح كامل. نعم، نحياها طالبين منه العون ليعمل فينا بروحه لنكون يومًا فيومًا مشابهين صورة الابن القدوس الذي عاشها في ملئها.

نعم سنفشل أحيانًا، وقد نفشل كثيرًا، كوننا لم نتخلص تمامًا من فساد الخطية في قلوبنا!

لكن ذلك ليس عذرًا على إهمال تعاليم المخلّص والمعلّم، الذي إذ نأتي إليه في انكسار كمساكين لا شيء لنا حزانى على خطايانا، يُذكّرنا بفمه الكريم، أنه يعلم تمامًا من نحن وكيف يمكن أن يُغيّرنا بنعمته، ليسمعنا صوته العذب: "طوبي للمساكين بالروح...لأن لهم ملكوت السماوات....طوبي للحزانى لأنهم سيتعزون."