أوَّل نموذج سنتحدَّث عنه هو نموذج الحصرية (exclusivism). يؤكِّد أتباعُ هذا النموذج ثلاثَ حقائق كتابية، وتُعتبَر كلٌّ منها حقيقةً غير قابلة للتفاوض.
الحقيقة الأولى:
يسوع المسيح، الله المتأنِّس، مُتفرِّدًا في كونه ذروة الإعلان عن الله. هذا الإعلان يمثِّل المعيار الذي بواسطته يتمّ تقييم وانتقاد كلّ عقيدة أخرى.
يؤكِّد كثيرون من أتباع هذا النموذج أنّ اللهَ أعلن عن نفسِه فيما يُسمّى بـ”الإعلان العام“ (الخليقة، الضمير)، وأنّ هذا الإعلان العام كافٍ لمعرفة بعض الأمور عن الله (قدرته، استقامته الأخلاقية). لكن هذا الإعلان العام غير كافٍ ليُعرِّف الإنسانَ كيفية الخلاص من حالة السقوط في الخطية. كذلك، يجب ألّا ننسى أنّ كلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض لم يتجاوب بطريقة إيجابية مع هذا الإعلان العام (مزمور ١٤: ١-٣). لذلك، فالإعلان العام يترك الإنسانَ بلا عذرٍ وواقعًا تحت الدينونة، لكنّه لا يُعرِّفه الخلاصَ ولا يخلِّصه (رومية ١: ١٨- ٢١). ولهذا السبب يحتاج الإنسان إلى ”الإعلان الخاص“.
الإعلان الخاص هو كلمة الله التي تشرح عملَ الله لخلاص الخُطاة. هذا الإعلان الخاص بدأ، كما ذكرنا في المقدِّمة، في تكوين ٣: ١٥، ٢١ عندما غطَّى اللهُ عُري آدم وحواء ووعَدهما أنّه هو الذي سيصنع الخلاص، بواسطة وسيط سيكون من ”نسل المرأة“. كذلك، أعلن الله بواسطة أنبيائه بطرُق مختلفة أنّه هو نفسه سيأتي ليخلِّص شعبَه، وذروة هذا الإعلان والتحقيق الفعلي لهذا الخلاص كان في شخص المسيح (عبرانيين ١: ١-٣).
يؤكِّد أتباعُ هذا النموذج أنّ المسيح ليس أحدَ الأنوار التي تُضيء للإنسان في العالم، ولا أحد الطرق التي تؤدِّي إلى الله، لكنَّه هو وحده ”النور الحقيقي“ (يوحنا ١: ٩؛ ٨: ١٢)، وهو ”...الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ...“ (يوحنا ١٤: ٦). هكذا فَهم رُسل المسيح رسالتَه، فنجدهم يعظوا، ”وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلَاصُ. لِأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ.“ (أعمال ٤: ١٢). وهكذا فإنّ الأممَ الذين لم يعرفوا المسيحَ ليسوا على طريق أبطَإ لنفس الملكوت السماوي الذي تحدَّث عنه المسيح، ولا هم عابِدون نفسَ الإله بطريقة مختلفة، لكن يقول الروح القدس، ”أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ ٱلْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ ٱلْمَوْعِدِ، لَا رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلَا إِلَهٍ فِي ٱلْعَالَمِ.“ (أفسس ٢: ١٢). باختصار، أن تكون بلا مسيح يعني أنّك بلا إله في العالم. هذا الأمر نفسه قاد الرسول بولس إلى وصفِ مَن يقدِّمون ذبائح لآلهة غريبة، دون الإله الوحيد الذي أعلن عن نفسه في شخص المسيح، بأنّهم في الحقيقة يعبدون ”الشياطين“. فنسمعه يقول في كلمات أبعد ما تكون عن ”الكلام بلهجة سياسية“ في القرن الحادي والعشرين، ”إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ ٱلْأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ، لَا لِلهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ ٱلشَّيَاطِينِ.“ (١ كورنثوس ١٠: ٢٠).
الحقيقة الثانية:
جوهر الأخبار السارَّة في المسيحية (الإنجيل) هو إعلان موت الربِّ يسوع المسيح على الصليب (حدث تاريخي) لأجل خطايا شعبِه (بُعد لاهوتي لهذا الحدث) وقيامته (حدث تاريخي) لإعطاء حياة أبديَّة لكلِّ مَن يؤمِن به (١كورنثوس ١٥: ١-٣؛ أعمال ٢: ٣١، ٣٢).
فليس أيُّ مسيحٍ ”ربًّا“. وأيُّ مسيحٍ لم يَمُتْ ويَقُمْ لتحقيق الخلاص هو ”مسيحٌ آخرُ“ غير المسيح الحقيقي الذي أتى في التاريخ. وهكذا فأيّ رسالة لا تحمل في مركزها موتَ المسيح وقيامته كالرجاء الوحيد لخلاص الخطاة، هي ليست رسالة تُخلِّص، ومِن ثَمَّ ليست أخبارًا سارَّة بالمرة (١كورنثوس ١١: ٤؛ غلاطية ١: ٧، ٨).
الحقيقة الثالثة:
يُمكن الاستفادة من الخلاص فقط بالتجاوب مع رسالة الإنجيل بالتوبة عن الخطية والرجوع إلى الله والإيمان، أي تحويل ثقتنا من أنفسنا، ومن أعمالنا الصالحة، ومن مواهبنا وقدرتنا، ووضعها في شخص المسيح وحده القادر أن يخلِّص بِبِرِّه وكفَّارته.
بطريقة أخرى، لا يُمكن لأيِّ إنسانٍ أن يستَفِيدَ من حياة المسيح وكفَّارته إلَّا بالتوبة والإيمان الواعييْن في أثناء سماع الأخبار السارَّة وتصديقها وقبولها والخضوع لها (مرقس ١٦: ١٥، ١٦؛ يوحنا ٣: ١٦-١٨). لذلك، نقرأ أنّ المسيحَ نفسَه بشَّرَ الناسَ برسالة الإنجيل داعِيًا إيَّاهم للتجاوب: ”...، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ.“ (مرقس ١: ١٥). كما أكَّد بولس استحالةَ وجود إيمانٍ يجعل الإنسانَ يستَفِيد من الخلاص الذي حقَّقه المسيحُ دونما يسمع هذا الشخص برسالة الخلاص: ”فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلَا كَارِزٍ؟“ (رومية ١٠: ١٤). وهكذا نسمع روحَ الله مُتكلِّمًا بوضوحٍ، ”الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ.“ (يوحنا ٣: ٣٦).
هذا المقال هو ((الثاني)) من بين أربعة مقالات عن موضوع حصرية وشمولية الخلاص. يمكنك قراءة الأجزاء الأخرى بالضغط على أي من الروابط:-